إذا أراد القدر نفع شخص هيأ قلبه لقبول النصائح، وساق إليه موعظة على فراغ الفكر، سوق المطر إلى الرض الجرز (فَنُخرِج بِه زَرعاً مُختَلِفاً أَلوانُهُ) فإذا أعرض القدر عن شخص، ألقاه في بحر من الغفلة لجي، فكلما فتح عينيه رأى ظلمات بعضها فوق بعض. نجائب السلامة مهيأة للمراد، وأقدار المطرود موثقة بقيود الغفلة، كم يتمنى المردود أن يصل، وهيهات " يأبى القدر " كم محرم محروم صد من قبل.
يَقِرُّ بِعَيني أَن أرى رَملَةَ الحِمى ... إِذا ما بَدَت يَوماً لِعَيني قِلالُها
وَلَستُ وَإِن أَحبَبتُ مِن يَسكنُ الغَضا ... بِأَولَ راجٍ حاجَةٍ لا يَنالُها
المخلوق هدف، والمقادير سهام، والرامي من تعلم، فما الحيلة؟؟ صوارم القدر إذا هزت تقلقلت رقاب المقربين، إذا غضب على قوم فلم تنفعهم الحسنات، ورضي عن قوم فلم تضرهم السيئات، هبت عواصف الأقدار.
فخب بحر التكليف، وتقلبت بيداء الوجود بساكني الأكوان، فانقلعت أطناب الأنساب، ووقعت خيم المتكبرين، فانقلب قصر " قيصرط وتبدد شمل " أبي طالب " ووهي عمل " أبي جهل " وانكسر جيش كسرى " وانبت حبل صاحب " تبت " فلما طلع الفجر، وركد البحر، إذا " أبو طالب " غريق في لجة اليم، و " سلمان " على ساحل السلام، و " الوليد بن المغيرة " يقدم قومه في التيه. و " صهيب " قد قدم من قافلة الروم، وأبوجهل في رقدة المخلفة، و " بلال " ينادي: الصلاة خير من النوم.
[الفصل الثالث والثلاثون]
[عقوبة الحرص على الدنيا]
الدنيا نهر طالوت، والفضائل قد نادت (فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَليسَ مِني) فإذا قامت القافلة مقام ابن أم مكتوم " وقع لها (إلا مَن اِغتَرَفَ غُرفَةً) فأما أهل الغفلة فارتووا، فلما قام حرب الهوى البطنة، فنادوا بألسنة العجز (لا طاقَةَ لَنا اليَومَ بجالوت) وأقبل مصفر الجسد، فحاز قصب السبق بالظفر.
الدنيا ظل، إن أعرضت عن ظلك لحقك، وإن طلبته تقاصر، اخدمي من خدمني، واستخدمي من خدمك.
الزاهد لا يلتفت إلى الظل، فيتبعه الظل، والحريص كلما التفت لم يره.
أيها الحريص على الدنيا: إلى كم تهيم في بيداء التحير؟؟ (كَالَّذي اِستَهوَتهُ الشَياطين) ألحرصك حد؟ أم لأملك منتهى؟ ويحك: إن البحر لا ينزف، فاقنع بالري. ويحك: سير التواني لا ينقطع، هيهات أن يستغني من لا يكفيه ما بكفه، ويحك: إن المفروح به هو المحزون عليه لو فطنت.
الدنيا خمر، كلما شرب منها الحريص زاد عطشه، ادرع من ثوب القناعة ما يشمل ك الأطراف، فالقناعة تدفع بالراحةن في صدور الهم، وتهدي الراحة إلى تعب القلب.
وَكُلُ الشَّر في الشَّرِه وكم من شارب شرق قبل الري، وإنما اللذة خناق من عسل.
وقع نحل على نيلوفر فأعجبه ريحه، فأقام على ورقه المنتشر، فلما جاء الليل تقبض الورق، وغاص في الماء، فهلك النحل.
حرصك غيم وعقلك شمس، والغيم يحجب القلب عن مشاهدة الآخرة، فابعث شمال العزم يمزق شملة شملة.
عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، وشرب الماء على الري يورث الاستسقاء، ما أمنعك من الدنيا!! ولكن الحمة قرين العسل. ليس للحريص عيش، وأي عيش لمن يصبح وما شبع؟؟ ويمسي وما قنع؟ وتراه أحير من " بقة " في حقة خلف ما لا يساوي جناح " بعوضةط.
إنما المراد من الدنيا ما يصلح البدن ليسعى فيما خلق له، فالاشتغال بالتزيد عائد بالنقص في المقصود، إن جامع الأموال لغير البلاغ خازن للورثة، فهو يحرق نفسه بنار الحرص، وينتفع بربح جمعه غيره، كانتفاع الناس بعرف العود المحترق.
كم قتلت الدنيا قبلك، كما أهلك حبها مثلك؟
كَم بالمُحَصَّبِ مِن عَلَيلِ هوىً طَريحٍ لا يُعَلَّل
وَكَم قَتيلِ بَينَ خَيفَ مِنى وجَمعٍ لَيسَ يُعقلُ
يا كنعان الأمل يا " نمورد " الحيل، يا " ثعلبة " البخل، يا " نعمان " الزلل، أنت في جمع الأموال شبه " حاطب " وفي تبذير العمر رفيق " حاتم " تمشي في الأمل على طريق " أشعب " فكيف بك إذا ندمت ندامة " الكسعي ".
وَكَم طالِبٍ أَمراً وَفيهِ حِمامُهُ ... وَسائِرَةٍ تَسعى إِلى ما يَضُرُها
ألقيت نفسك في جب حب الدنيا، فمتى يخلصك وارد الزهد، تسمع نغمات الفرح: يا بشرى.
[الفصل الرابع والثلاثون]
في قيام الليل