وليس يتنبه لركاكة تيك الخيالات الفاسدة، ولا يرجع فينتبه لفساد الأصل الذي وضعه، فدعاه إلى الإقتصار في إثبات الحكم على طريق المؤثر أو المناسب، ولا يزال يتخبط، والرد عليه في تفصيل ما أورده في المسائل يشتمل عليه كتبنا المصنفة في خلافات الفقه، سيما: كتاب تحصين المأخذ، وكتاب المبادي والغايات.
والغرض الآن من ذكره أن الإستقصاء الذي ذكرناه في العقليات، ينبغي أن يترك في الققهيات رأسا؛ فخلط ذلك الطريق السالك إلى طلب اليقين بالطريق السالك إلى طلب الظن صنيع من سدى من الطرفين طرفا، ولم يستقل بهما، بل ينبغي أن تعلم أن اليقين في النظريات أعز الأشياء وجودا، وأما الظن فأسهلها منالا وأيسرها حصولا.
فالظنون المعتبرة في الفقهيات هو المرجح الذي يتيسر به عند التردد بين أمرين: إقدام أو إحجام؛ فإن إقدام الناس في طرق التجارات وإمساك السلع تربصا بها، أو بيعها خوفا من نقصان سعرها، بل في سلوك أحد الطريقين في أسفارهم، بل في كل فعل يتردد الإنسان فيه بين جهتين على ظن؛ فإنه إذا تردد العاقل بين أمرين، واعتدلا عنده في غرضه، لم يتيسر له الإختيار، إلا أن يترجح أحدهما، بأن يراه أصلح بمخيلة أو دلالة؛ فالقدر الذي يرجح أحد الجانبين ظن له، والفقهيات كلها نظر من المجتهدين في إصلاح الخلق.
وهذه الظنون وأمثالها تقتنص بأدنى مخيلة وأقل قرينة، وعليه إتكال العقلاء كلهم في إقدامهم وإحجامهم على الأمور المخطرة في الدنيا، وذلك القدر كاف في الفقهيات، والمضايقة والإستقصاء فيه يشوش مقصوده بل يبطله، كما أن الإستقصاء في التجارات، ضربا للمثل، يفوت مقصود التجارة.
وإذا قيل للرجل: سافر لتربح، فيقول: وبم أعلم أني إذا سافرت ربحت؟