ولما كَانَ الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند النَّاس كلهم، باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض الْمُشْرِكِينَ إِلَى أن ثُمَّ خالقاً خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدُّهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هَؤُلاءِ يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مُشْرِكُونَ في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك، فلما كَانَ هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بيَّن القُرْآن بطلانه، كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:٩١] فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إِلَى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كَانَ معه -سبحانه- إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر عَلَى قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر عَلَى ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم عَلَى قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم عَلَى بعض.
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.