فحصل هنا التقاء بين هذين الأصلين وهو قولهم: إن القُرْآن مخلوق لله، أو كما يقولون: إنه عبارة أو حكاية خلقها جبريل أو مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشكلت عليهم الآيات التي فيها (أنزل، نزل) كقوله تعالى: نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:١٩] وما أشبهها من الآيات التي تدل عَلَى أن القُرْآن من الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في العلو فوق العالم فيورد المُصنِّفُ مسألة إنكارهم لعلو الله.
فهم يتصورون بذهنهم المحدود أنه لا يوجد شيء إلا وبجواره شيء آخر، والصحيح أن المخلوقات هي التي يتصور فيها هذه الجهات، وهذه المجاورة، والله عَزَّ وَجَلَّ أكبر وأعظم من كل شيء كما قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:١٠٣] وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:١١٠] لكنهم غفلوا عن هذا فظنوا أنه لا بد من وضع جهة معينة، بمعنى: أنه تحده أو تحوطه الجهات.
فقالوا: ننفي جميع الجهات وهذا مذهب الفلاسفة عموماً وتبعهم في ذلك المعتزلة والأشعرية، والمذهب الآخر أصحاب "الأين" أو "الأينية" وهو: أنه في كل مكان، وهذا الذي ذهب إليه الصوفية ومن اتبعهم الذين يؤمنون بالعقل كما يسمونه ويحكمون العقل المجرد، وإنما نفوا جميع الصفات؛ لأن العقل عندهم لا يقرها، والذين يؤمنون بالكشف والذوق والعلم الباطن أو ما أشبهه، قالوا: هو في كل مكان نعوذ بالله من الضلال