قلد من هم حواليه بما يسمعه منهم من إطلاق الألفاظ على معانيها، وهو في ذلك ينتقل في كلامه من لغو الأطفال، إلى لثغة الوليد، إلى تمرين الصبي، ثم إلى بهجة العشيرة، فتهذيب المدرسة. وهكذا تلقن اللغة. ولا أحسب أن في هذا جدالًا يعتد به، ولو فرض وجوده فهو بلا ثمرة، وإنما الكلام في الأصل الذي نشأت منه هذه الألفاظ التي فتق عليها سمع الصبي حتى أصبحت لغة يأخذها الوليد بالتقليد. وقد ذهب علماء اللغات قديمًا وحديثًا في أصل الوضع مذاهب ستى، فقال بعضهم بالوحي والإلهام.
اللغة من وحي الله وإلهامه:
قالوا: إن اللغة تعليم من الله علمه آدم/ وفسروا الآية: "وعلم آدم الأسماء كلها" بأنها هذه الأسماء التي يتعارفها الناس. رووا ذلك عن ابن عباس، وزادوا فقالوا: إن الأسماء التي تعلمها آدم هي أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها إلى أن تفرق ولده في الدنيا. وعلق كل فريق بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهده بها. وأراد بالأسماء هنا اللغة كلها: أسماءها وأفعالها وحروفها على التغليب، لأن الأسماء ركن في الكلام لا يمكن خلو جملة من جمله عنها، فصح، والحال هذه، إطلاقها عليها بخلاف الفعل إذ يجوز خلو الجمل عنه.
وعلى هذا المذهب تكون اللغة محصورة في ما علمه الله آدم من اللغات، فلا تغيير ولا تبديل فيها، بل هي على ما تكلم به أبو البشر بلا تحريف آخر الدهر. وهذا معنى قولهم: إن اللغات توقيفية لا تتعدى اورد.
والظاهر أن ناموس التغير والتبدل لم يخطر لأصحاب هذا المذهب ببال. فحسبوا أن اللغة باقية على وضعها الأول الذي تعلمه آدم في كل لغة من اللغات، وانتقلت متوزعة بين أبنائه كما كان ألقاها هو.
مذهب ابن فارس:
وقال أبو الحسين أحمد بن فارس، في كتابه "فقه اللغة" المعروف بالصاحبي: "والدليل على صحة ما نذهب إليه من التوقيف، إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأسعارهم. ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحًا، لم يكن أولئك بالاحتجاج بأولى منا لو اصطلحنا على لغة، اليوم، ولا فرق. ولعل ظانًا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيفية إنما جاءت جملة واحدة، وفي زمن واحد، وليس الأمر كذلك، بل وقف الله آدم، عليه السلام، على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله،