ونمت، والتي همل فيها هذا الأمر ترجع القهقري حتى تموت، وبموتها تموت أمتها وتفنى قوميتها. فاللغات لها حياة وموت، وصحة وسقم، وشباب وهرم.
اللغة بضوابطها وقواعدها:
إن اللغة مشتركة بين أبنائها كسائر المصالح المشتركة فيما بينهم، فكما أن هذه تتعرض للفوضى، إذا لم يكن لها نظام يحفظها، ووازع يزعها عن الشذوذ عن النظام عند التعارض والتزاحم، كذلك اللغة فإنها تحتاج إلى مثل هذا من الضوابط والقواعد، التي هي نظام اللغة وشريعتها. وكما أن أهل الحل والعقد في الأمة هم أولو الحق في اختيار القوانين الصالحة لشريعة الأمة، كذلك أهل الحل والعقد في اللغة، وهم أئمتها من السابقين وأصحاب المجامع الصالحة من المتأخرين، هم أولو الحق في ضبط هذه القواعد وتهذيبها على سنن لا يخرج بها عن حدها، ولا يمسخها في وجهها واتجاهها القومي ومميزاتها الخاصة، وفي ذمتهم منع الفوضى وإقامة نظام اللغة على أركانه. وكما أن مبلغ رقي الأمة إنما يعرف برقي قوانينها كذلك كل لغة إنما تعرف قوتها بمتانة أصولها وانتظام قواعدها وسعة بيانها.
ولا أراني مبالغًا إذا قلت: إن اللغة هي في الأغلب أصول وقواعد وأساليب تجري عليها، أكثر مما هي مفردات وألفاظ. وأن لهذه الأصول والقواعد والأساليب من الرسوخ والثبات في اللغة ما ليس للمفردات. فالمفردات كثيرة التعرض للتطور من تحريف وتبديل، وقلب ونحت مما يمكن معه، مع طول المدة، أن يتغير شكل الكلمة. وهكذا تموت كلمات وتحيا أخر. أما طرق الاشتقاق والتركيب فثابتة لا تتغير إلا فيما ندر وطال معه العهد، كما تحيا وتتجدد وتموت وتفنى دقائق الجسم الحي، وهيئة الجسم ثابتة لا تتغير.
أقدم اللغات المعروفة، أو اللغة الأولى للبشر:
لم يتفق الباحثون على تعيين أقدم اللغات المعروفة عهدًا وأبعدها مدة؛ فادعى الصينيون أن لغتهم هي اللغة الأصلية، ولم يستبعده بعض العلماء من حيث أنها قليلة التهذيب والتشذيب، بل لا تزال ضاربة في البساطة التي هي صفة لازمة للغة الأولى؛ ولو صح هذا لكانت لغات زنوج إفريقية وهنود أميركة هي اللغة الأصلية لأنها أعرق في البساطة من الصينية وأقل تهذيبًا.
وادعى الأرمن أن لغتهم هي اللغة الأولى وأنها هي التي تفرعت فروعها فكانت منها لغات العالم، لأن الله تعالى جبل آدم من تربتهم، وأنزله بأرضهم فهم يتكلمون بلغته، ولغة أبي البشر هي الأولى، لأنه هو الإنسان الأول. وهو أيضًا منقوض:
١ - لأن مستند دعواهم أن الإنسان الأول خلق من تربتهم، ونزل بلادهم هو غير مسلم به.