إلى تقويم لسانه بالحرف صار إليه، أو علم ذلك نشأ عليه، وإلا احتمل له أن يبقى في كلامه شيء من لكنة الصغير أو تحريفه. فإذا ساعد على ذلك كله أو بعضه تباعد الديار والتفرق على وجه الأرض مع قلة التواصل والتزاور، بعد الفرع عن الأصل واستقل بنفسه، وكان بعدئذ لغة قائمة برأسها معرضة لسنة التطور.
وإما لأن اختلاط الأمم بعضها ببعض، وتمازجها بالتجارات أو الغارات والسباء، بعد أن صارت كل أمة مستقلة بنفسها، يدعو إلى تسرب شيء من لغة بعض إلى لغة الآخرين، فتأخذ هذه من تلك، أو بالعكس، كلمات وأساليب. فإذا كانت إحداهما غالبة أخذت المغلوبة منها أكثر مما تعطيها، إذا تساوى تمدنهما أو كانت الغالبة أرقى، وذلك بسنة تشبه الضعيف بالقوي. وهذا العامل، عامل الاختلاط، أكثر أثرًا في تبدل اللغات من سواه، ولذا تجد أهل البادية أكثر حفظًا للغة من أبناء الحاضرة لقلة اختلاط أولئك بغيرهم، وكثرة اختلاط هؤلاء. وإن سلامة لغة البدو من التحريف والتغيير إنما تكون بقدر بعدها عن الحضر.
(((
هكذا كان ويكون التطور في اللغات، وهكذا تتشعب. فبينما يكون اختلاف لهجة ولهجة في قطر واحد بين مدينتين فيه أو ناحيتين من نواحيه، يكون اختلاف أكثر بين قطرين متجاورين كالشام والعراق وهو أشد أثرًا منه إذا كانا متباعدين كالشام والمغرب الأقصى. ثم يشتد التباعد مع تطاول المدة فيكون كالاختلاف بين المضرية والحميرية، فإذا ازداد شدة كان كالاختلاف بين العربية والعبرانية ... وهكذا حتى يبلغ الاختلاف أقصاه.
موت اللغة وحياتها:
اللغات في العالم متفاوتة جدًا في حالاتها، فبعضها ضيق العطاء في الدلالة على المراد، حتى إن منها ما لا يعرف في اسم لما فوق العدد الخامس من الآحاد، في حين أن بعضها يتسع للتعبير عن كل ما يراد. ولكن اللغات غير الصالحة للحياة لا تلبث طويلًا عند تماس أهلها بأهل اللغات الراقية فيستغنون بهذه لسعتها، عن تلك لضيق مادتها، فتندرس التي استغنى عنها تدريجيًا حتى تصبح أثرًا بعد عين.
إن حياة اللغة وارتقاءها مبنيان على مقدار نصيب أهلها من الرقي والتمدن، فكلما ارتقت الأمة كسرت حاجاتها بالطبع، فاتسعت لغتها باتساع الحاجات. واللغة إذا اتسعت احتاجت إلى ضوابط وقواعد تصونها؛ فاللغة التي يسلك بها أهلها هذا السبيل، والتي حفظت نفسها، بما وضع لها الغياري عليها من ضوابط وقواعد تحفظها، وتعين على نموها، وتتسع بها للجديد، كتبت لها الحياة