البعثة النبوية، كما سمعت من قول ابن خالويه، وقال آخرون: هو الهجرة النبوية، وقال غيرهم: هو فتح مكة. وهذا أرجح الأقوال، لبانه بفتح مكة أظهر الله الإسلام فعلت كلمته على كلمة مشركي العرب، بل كسرت شوكة الشرك ودخلت عاصمة العرب الكبرى مكة في يد المسلمين، وطهرت الكعبة من رجس الأصنام، وهتف المؤذن:"الله أكبر" فوق أقدس موضع عند العرب بشهادة" أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فقضي على وثنية العرب القضاء المبرم.
وأما حدها الأعلى فلا سبيل إلى معرفته إلا بالاستنتاج، إذ لا نص يدل عليه. وقد استظهر بضع الباحثين انه لم يتجاوز مائتي سنة، ويظهر من بعضهم أنه حدد بمائة وعشرين سنة. وإليك هذا:
ذكر الشريف المرتضى، علم الهدى، في "أماليه" عند كلامه على المعمرين: إن الربيع ابن ضبع الفزاري، أحد معمري العرب، أجاب عبد الملك بن مروان لما سأله عن عمره، بأنه عاش مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام، وعاش أيام الجاهلية كلها، وهي مائة وعشرون سنة، ثم ستين سنة في الإسلام؛ قال المرتضى:"إن هذا الخبر، فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له إنما كان في أيام غفلته (أي قبل خلافته) لا أيام ولايته، لأن عبد الملك ولي سنة ٦٥ للهجرة فإذا كان صحيحًا فلابد مما ذكرناه.".
هذا كلام المرتضى. وظاهره أن المرتضى يرى أن الحد الفاصل بين عصري الجاهلية والإسلام هو الهجرة. أما على القول بأن الحد (الفاصل) بين العصرين هو فتح مكة وهو في السنة الثامنة للهجرة، فيكون سؤال عبد الملك للربيع بعد خلافته بثلاث سنوات.
لا انظر في هذا الحديث عن الربيع من حيث انه صحيح أو سقيم، فقد شك فيه المرتضى بقوله:"إن كان هذا الخبر"، وإنما أنظر إليه من حيث أنه دلالة على مدة أيام الجاهلية وحصر لها بمائة وعشرين سنة. لأن الربيع عاش قبلها وبعدها وقطع أيامها، وهي على قوله مائة وعشرون سنة. والمرتضى، على علمه بأيام العرب وأحوالها ورسوخ قدمه في لغة العرب وتاريخ العرب، ومع شكه في الوقت الذي سأل فيه عبد الملك الربيع، لم ينف تحديد مدة الجاهلية المزعومة في كلام الربيع، أو لم يأت على الأقل بما يفيد أنه شاك فيها.
وأنا أشك في قول الربيع، على تقدير صحته، أنه عاش قبل الجاهلية أي في فترة عيسى مائتي سنة لأنه يقول فيما روي عنه في شعره:
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا