ولا حاجة لأن أقول أن أكثر ما ذكرته من العامي إنما هو من اللهجة التي أسمعها كل يوم، بل تدخل سمعي كل ساعة، وهي لهجة بلاد ساحل الشام من سفوح لبنان، وبالأخص لهجة بلدي جبل عاملة. ولم آل جهدًا في إثبات ما سمعته من عامية غير هذه الديار.
على أنني توسعت في هذا البحث في كتاب خاص أسميته "رد العامي إلى الفصيح".
١٨ - حرصت أن لا تفوت كتابي هذا مادة ذكرت في لسان العرب وتاج العروس، وهما أكثر كتب الأئمة المعروفة لدينا جميعًا لمواد اللغة، فكان كتابي هذا جامعًا لكل ما يمكن أن يطلبه طال اللغة، فلا تمر به كلمة من كلماتهم إلا ويكون لها تفسير فيه؛ فإن بلغت بذلك رضا الطالب فهو غاية المرام، وإلا فاللغة بحر لا يدرك ساحله.
وقد رأيت كثيرًا من ناشئة اليوم قد أولعوا بالإعراض عن الكلمات الغريبة الوحشية التي هي غير مأنوسة في الاستعمال. فإن كان هذا من حيث الاستعمال فصالح، وهو حق وصواب، ويحسن بنا أن نتخير لكلامنا في منظومنا ومنشورنا الألفاظ العذبة السائغة ونتجنب الحوشي والوحشي الثقيل على السمع واللسان. وإن كان من حيث هجرها المطلق وطلاقها البائن حتى لا تذكر في معاجمنا، فذلك غير صالح لأنها من تراث اللغة القديم الذي لا يستغنى عن معرفته متأدب ينظر في كلام العرب وخطبهم وأشعارهم وأخبارهم، وهجرها هذا يقطع الصلة بينا وبين سلفنا، ذلك السلف الذي نفتخر ببيانه وشرف لسانه، بل هو بت للحبل بين قديم اللغة وحديثها. وقد تجد كلمات كانت غير مأنوسة في زمن، وأتى عليها زمن آخر تداولتها الألسن، فأنست بعد نفار، وتأهلت بعد استيحاش.
١٩ - رأيت منذ شرعت في كتابي هذا أن الاعتماد على كتب الأئمة السالفين، وهم الذين أوتوا خطأ وافرًا من العلم باللغة، وافنوا زهرة أيامهم في تحصيله، وبذلوا في سبيله كل جهد، وتحملوا كل عناء، حتى بلغوا من ذلك الذروة أو كادوا، وأحرزوا فيه ملكة راسخة، وتحقيقًا واسعًا، رأيت أ، الاعتماد عليهم هو الذي يجب علينا أن نهتم له، وأن نعني به كل العناية، لأن كتب المتأخرين المعاصرين غير مأمونة الخطأ. فتجنبت بادئ بدء مراجعة كتب المتأخرين المعاصرين حتى لا تسري إلى أغلاطهم من حيث لا أشعر بها، وهذا كتاب أقرب المواد للشرتوني، وهو أكثر كتب المعاصرين رواجًا بين أيدي الكتاب والطلاب على جلالة قدره، فإني راجعت أوائله بعد إتمام مؤلفي هذا فاستخرجت له نحوًا من أربعمائة غلطة من ثلاثمائة صفحة نشرتها في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق في المجلد: ٢١ صفحة ١١٨ و ٢١٨ و ٣١٧، وفي المجلد: ٢٢ صفحة ٣٤٥.