للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المطلب الثاني الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي]

المطلب الثاني

الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي انتهينا فيما سبق إلى أن الحلاج كان أول صوفي غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخرجه عن حد البشرية منطلقا من مذهبه في الحلول.

وجاء ابن عربي (١) .

الذي بدأ من حيث انتهى الحلاج ليقيم مذهبا فلسفيا صوفيا مبنيا على وحدة الوجود، وتفرع عن مذهبه في الوجود مذهبه في الحقيقة


(١) هو محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي ثم الدمشقي، المعروف بابن عربي بالتنكير تمييزا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، وينتهي نسب ابن عربي إلى عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي.
ولد ابن عربي في رمضان سنة ٥٦٠ هـ بمرسية في بلاد الأندلس ثم ارتحل إلى أشبيلية بعد بلوغه ثماني سنوات وفيها حفظ القرآن وتعلم القراءات واشتغل بتحصيل الحديث وسماعه من أهل الحديث في بلاده ثم مال بعد ذلك إلى الأدب ونظم الشعر فحصل له توسع فيه وكتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب ثم بعد ذلك كله سلك طريق التصوف فتزهد وتعبد وأقبل على الخلوات وانقطع للتنسك إلى أن أصبح رأسا في التصوف الفلسفي.
وكان ابن عربي بحكم نشأته في الأندلس التي كانت بمنزلة الباب العربي للمسلمين على أوربا قد اطلع على ثقافات عصره والفلسفات السائدة في ذلك الوقت. ثم خرج ابن عربي بعد ذلك من الأندلس لطلب العلم ولقاء الصوفية في البلدان والاجتماع بهم فزار معظم مدن المغرب مثل سبته وفاس وتونس وتلمسان وغيرها، ثم اتجه في رحلاته إلى المشرق راغبا في الحج، وبعد الحج اتجه صوب العراق فدخل بغداد والموصل ثم رحل إلى مصر سنة ٦٠٣ هـ. واتصل ببعض أشباهه من الصوفية وأخذ بتأليف الرسائل والكتب وهناك ظهر منه ما يستوجب النقد والإنكار، فأنكر عليه علماء مصر ما صدر منه وحكموا بكفره وإراقة دمه كما حكم على الحلاج وأمثاله، وكاد أن يقتل لولا أن خلصه وشفع له الشيخ أبو الحسن علي بن فتح بن عبد الله البجائي الذي سعى في أمره وأظهر وجوه تأويل كلامه إلى أن عفي عنه.
ثم رحل إلى مكة فجاور بها إلى سنة ٦٠٧ هـ وفيها ابتدأ تأليف كتابه الفتوحات المكية الذي يعتبر أكبر موسوعة صوفية شملت كثيرا من علوم الصوفية وأحوالهم غير أنه مزجه بمذهب وحدة الوجود. ثم توجه ابن عربي بعد ذلك إلى بلاد الأناضول فوصل إلى (قونيه) وكانت آنذاك عاصمة القسم الإسلامي من بلاد الروم، وفيها صنف بعض كتبه كما تزوج فيها بأم صدر الدين القونوي فأصبح القونوي ربيبه ومن أخص تلامذته فيما بعد، ثم رحل ابن عربي بعد ذلك إلى بغداد حيث التقى بشهاب الدين السهروردي صاحب كتاب عوارف المعارف، ومن بغداد توجه إلى مكة ومنها إلى قونيه مرة أخرى، ثم رجع إلى الشام ليتنقل بين قرى الشام ومدنه واستقر به الأمر آخرا في دمشق حيث أتم كتاب الفتوحات المكية وصنف فصوص الحكم، والتفصيل في معاني التنزيل، وغيرها من الكتب، كما أخذ ينشر علومه ومعارفه وظل في دمشق إلى أن توفي فيها سنة ٦٣٨ هـ.
ويعتبر ابن عربي من أكثر الصوفية تصنيفا إذ جاوزت تصانيفه ما يربو على المائتين، ومن أشهر تصانيفه الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وعنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب، وإنشاء الدوائر، والفناء في المشاهدة، وكتاب الإسراء إلى مقام الإسرى، ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار وغيرها. ويعد ابن عربي رأسا في تصوف أهل وحدة الوجود كما كان أهل الصوفية ضلالا وزيغا ومروقا من الدين. ولكنه لم يجاهر بآرائه وزنقدته وكفره إلا لخواص أصحابه وتلامذته خوفا من الوقوع تحت سيف الشرع متظاهرا بين عامة أهل العلم بالتنسك والعبادة والزهد.
فلما مات وانتشرت كتبه عرف الناس حقيقة أمره وحقيقة مذهبه فحكم أكثر العلماء بكفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله وانتصب كثير منهم للرد عليه وبيان كفره وتحذير الناس منه. وقد جمع تقي الدين الفاسي في العقد الثمين جملة من ردود العلماء وفتواهم بكفره وزندقته، كذلك فعل برهان الدين البقاعي في تنبيه الغبي إلى تكفر ابن عربي، ومثل ذلك فعل السخاوي في القول المبني في ترجمة ابن عربي.
وبعض العلماء أثنى على ابن عربي لما رأوا من زهده وإيثاره واجتهاده في العبادة فأثنوا عليه بهذا الاعتبار ولم يعرفوا ما في كلامه من الكفر، وبعض من أثنى عليه يعرفون ما في كلامه من الباطل ولكنهم يزعمون أن له تأويلا، وحملهم على ذلك متابعتهم له في معتقده، فثناؤهم عليه مردود لتزكيتهم معتقدهم. وأما الصوفية فأكثرهم - إلا من رحم الله - يعدون ابن عربي الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر وكثير منهم اليوم على مذهبهم بفهم لحقيقته وبغير فهم.
انظر: - سير أعلام النبلاء للذهبي، ٢٣ / ٤٨ وما بعدها.
- البداية والنهاية لابن كثير، ١٣ / ١٥٦.
- لسان الميزان لابن حجر، ٥ / ٣١١ وما بعدها.
- العقد الثمين لتقي الدين الفاسي، ٢ / ١٦٠ وما بعدها.
- شذرات الذهب لابن العماد، ٥ / ١٩٠ وما بعدها.
- نفح الطيب للمقري ٢ / ١٦١، وما بعدها.

<<  <   >  >>