وبالجملة فالكف عن الخوض في هذا أقرب إلى السلامة من العطب، لا سيما وينشأ منه أن من لم يلحق مرتبة القائل ولا له نسبة بآحاد أتباع أتباعه، بل ولا له كبير وجاهة في علم: يجعله ذريعة لمقاصده الفاسدة. ولقد سألت شيخنا " وناهيك به نقداً للرجال " عن التفضيل، بين الشيخ والرافعي في الحديث بخصوصه، فما سمح لي بالجواب إلا بتكلف، مع كونه لم يزد على أن قال: وُجد للرافعي على طريقة أهل الفن عدة تصانيف: تاريخ قزوين، والأمالي، وشرح المسند. ولكن الأدب عدم التعرّض لهذا أو نحوه.
فانظر كيف لم يسمح بذلك مع الرافعي، مع كون شيخ شيخه الحافظ أبي سعيد العلائي قد جزم به، " كما أسلفه في آخر سرد تصانيفه " فكيف بمن دونه؟ فالأولى الوقف، لا سيما والحاجة غير داعية إليه.
ولقد اضطر شيخنا مع مزيد تواضعه وأدبه مع الشيخ " كما سبق " إلى الخوض في تصانيفه، وكونه مسبوقاً بها، واختصاص " شرح المهذب " منها بمزيد التعب والطريقة المبتكرة، ولذلك لم يكمل. فقدِّرْ بعد وفاة شيخنا زَعَم شخص ممن لا نسبة له بآحاد جماعته، أن تصانيفه كلها قد سُبق إليها، فعارَضْته ب " تغليق التعليق " و " فتح الباري "، وغيرهما، مما لم يُسبق إليه، أو سُبق به وكان هو اللاحق بوضعه، وهو مصمّم على العناد، وأعرضت عنه وتوهمت أن ذلك ببركة الشيخ، لكون السكوت كان عنه أولى، رحمهما الله ونفعنا ببركتهما.
وقال القطب اليونيني: إن الشيخ باشر أيضاً تدريس الإقبالية، والفلكية، والرُّكنية، للشافعية، نيابة عن قاضي القضاة: الشمس أحمد بن خَلِّكان، في ولايته الأولى، انتهى.
وحدّث بالصحيحين بدار الحديث الأشرفية سماعاً وبحثاً، وبقطعة من سنن أبي داود، وبالرسالة للقشيري، و " صفوة التصوف "، و " الحجة على تارك المحجة " لنصر المقدسي، كلها سماعاً وبحثاً، و " شرح معاني الآثار " للطحاوي.
قلت: ووجد بحاشية نسخة من " الروضة " أنه وُجد بخطه من الشعر.
وأنت الذي أرجوه في الأمر كلِّه ... عليك اعتمادي في جميع النوائب
وأنت الذي أدعوه سرّاً وجهرة ... أجرني بلطفٍ من جميع المصائب
وبخط تلميذه العلاء بن العطار: أنه وجد بخطه أيضاً:
أموت ويبقى كلُّ ما قد كتبتُه ... فيا ليت من يقرأ كتابي دعا ليا
لعل إلهي أن يمن بلطفه ... ويرحم تقصيري وسوء فعاليا
وكذا وجد بخطه:
جرى قلمُ القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويُرزَق في غشاوته الجنين
ويشبه أن يكون ذلك ما تمثل به وليس من نظمه، ثم ظهر ذلك وأنهما للماوردي كما عزاهما إليه ابن كثير في ترجمته.
وقيل إنه سُمع من الشيخ قرب وفاته، ووُجد في موضع آخر نسبتُها إلى نظمه وأنه ليس له نظم غيرها:
بشائر قلبي في قدومي عليهمُ ... ويَا لسُروري يوم سيري إليهمُ
ولا في رحلتي يصفو مقامي وحبذا ... مقامٌ به حطُّ الرحال لديهمُ
ولا زادَ لي إلا يقيني بأنهمْ ... لهم كرَمٌ يغني الوفود عليهمُ
ووجدتُ بخط الشرف القدسي رواية عن العز بن جماعة، عن أبيه البدر: أن الشيخ أنشده لنفسه بالمدرسة الرّواحية:
خَرِس اللسانُ وكَلَّ عن أوصافكم ... ماذا أقول وأنتمُ ما أنتمُ
الذنبُ والتقصير مني دائماً ... والعفوُ والإحسانُ يُعرَفُ منكمُ
انتهى.
[تلاميذه]
وسمع منه خلق من العلماء والحفّاظ، والصدور والرؤساء، وتخرّج به خلق كثير من الآفاق، وسار علمه وفتاويه في البلدان.
قلت: وروى الأئمة " حتى من تقدمت وفاته عليه " كلامه في تصانيفهم، كالمحب الطبري، فإنه نقل عنه في كتابه " القِرى " أشياء، وكذا اتفق أن كلاّ من ابن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، كان من المستفيدين من إمامنا الشافعي، المفتخرين به، ومات قبل الشافعي بسنتين، انتهى.