وفي " البدر السافر " حكاية عن قاضي القضاة الجمال سليمان الزرعي: أنه كان يتردد إليه وهو شاب، قال: فجئت إليه في يوم عيد، فوجدته يأكل حريرة مدخّنة، فقال: سليمان ... كًل فلم تطب لي، فقام أخوه وتوجه إلى السوق وأحضر شواء وحلواء، وقال له: كُلْ، فلم يأكل، فقال له: يا أخي، أهذا حرام؟ فقال: لا، ولكنه طعام الجبابرة.
وكأنه رأى المقام يقتضي ذلك، وفهم من الإعراض عن الحريرة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، عدم الاستغناء عما اشتري وشبهه، وأنها طريقة لهم لازمة، أو لأن الحلواء المحضّرة كانت فيها زيادة تأنق وترفّه، ومن جهة كونها من سكر مثلاً، مع إضافة غيره من فستق ورائحة ونحوهما إليه، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء.
ولشدة ورعه لم يكن يُكثر من إقراء الشباب، بل كان يرشد من يقصده منهم للاشتغال، إلى الشيخ أمين الدين أبي العباس أحمد بن الشمس أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الجبار الأشتري، الحلبي، المتوفى في سنة إحدى وثمانين وستمائة، بعد الشيخ بسنتين، لعلمه بدينه وأمانته، وكذا كان يرشدهم إلى التاج ابن الفركاح، " كما أسلفه عند ذكر الأخذ عنه " إن صحت تلك الحكاية.
وكان الشيخ رحمه الله يرى تحريم النظر مطلقاً، خلافاً للرافعي. قال العثماني قاضي صفد: إنه توجه لزيارة الزاهد الفقيه: فرج بن عبد الله الصفدي الشافعي، صحبة التاج المقدسي، فجرت مسألة النظر إلى الأمرد، وأن الرافعي يحرّم بشرط الشهوة، والنووي مطلقاً، فقال الشيخ فرح: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: لي: الحقُّ في هذه المسألة مع النووي، فصاح تاج الدين وقال: صار الفقه بالمنامات، فخضع الشيخ فرح وقال: أستغفر الله، أنا حكيت ما رأيت، والبحث له طريق، فسكن التاج وقال: نحن في بيتك، انتهى.
[مناصحته لحكام عصره]
وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار لا يأخذه في الله لومة لائم، بل كان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها.
فمما كتبه وأرسلني في السعي فيه، ورقة إلى الظاهر تتضمن العدل في الرعية، وإزالة المكوس عنهم، وكتب معه في ذلك غير واحد من الشيوخ وغيرهم، منهم من مشائخي: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر شيخ الحنابلة، وأبو محمد عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي، شيخ المالكية، وأبو بكر محمد بن أحمد الشريشي المالكي، وأبو إسحاق إبراهيم بن وليّ الله عبد الله المعروف بابن الأرميني، وأبو حامد محمد بن العلامة أبي الفضائل عبد الكريم بن الحرستاني خطيب دمشق واب خطيبها.
ووضع ورقة الظاهر في ورقة لبَيْليك الخازندار بدر الدين نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المولى الحسن، ملك الأمراء: بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلّغه من خيرات الآخرة والأولى كلَّ آماله، وبارك له في جميع أعماله، آمين.
وينهي إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام هذه السنة في ضيق عيش وضعف حال، بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار، وقلّة الغلات والنبات، وهلاك المواشي، وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الراعي والرعية، ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة.
وقد كتب خَدَمَة الشرع الناصحون للسلطان، المحبون له: كتاباً بتذكرة النظر في أحوال رعيته والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل هو نصيحة محضة وشفقة تامة، وذكرى لأولي الألباب.
والمسؤول من الأمير " أيده الله تعالى " تقديمه إلى السلطان " أدام الله له الخيرات " ويتكلم عليه من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدّخراً له عند الله تعالى (يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه) .