قال في " البدر " أيضاً: وكان كثير العبادة، حكي لي البدر ابن جماعة إنه سأله عن نومه فقال: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظه وانتبه، قال " أعني البدر ": وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكانا أجلس فيه، انتهى.
وذكر لي صاحبنا الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي، في حياة الشيخ، قال: كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق، والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة، وهو يردد قوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون) مراراً، بحزن وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك أمر عظيم.
قلت: وصرح اليافعي والتاج السبكي " رحمهما الله " أنه أشعري. وقال الذهبي في " تاريخه " إنه مذهب في الصفات السمعية: السكوت، وإمرارها كما جاءت، وربما تأويل قليلا في " شرح مسلم " كذا قال: والتأويل كثير في كلامه، انتهى.
[ورعه وخشونة عيشه]
وأما ورعه وخشونة عيشه، فإنه كان لا يأكل من فاكهة دمشق، وسألته عن ذلك فقال: إنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعا، ولا يجوز التصرف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء، ومن جوّزها قال بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟ قلت: وتبعه القطب اليونيني على حكاية ذلك، قال: وأيضاً فغالب من يُطعّم أشجاره إنما يأخذ الأقلام غضباً أو سرقة، لأن أحداً ما يهون عليه يبيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة، فتؤخذ تلك الأقلام، سرقة وتطعّم في أشجار الناس، فتطلع الثمرة في نفس القلم المغصوب، فتكون ملكاً لصاحب الأقلام، لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراؤه حراماً، انتهى كلام القطب.
وصفته: أنهم يشقون فرعاً من فروع الشجرة ويجعلون في جوفة قطعة من غيرها، ثم يشدونه بحبل، ونحوه ما يُفعل في النخل.
ثم إن ما تقدم في تركة الأكل من الفاكهة، هو المنقول المستفيض ولكن يُحكى " كما بلغني " أنه أكل مرة نصف حبة من بعض الفواكه، لكون بعضهم علّق عتق عبد له على أكل الشيخ منها، وبلغه ذلك، ففعله لما ينشأ منه من فك رقبة مؤمنة، ولعله يتقيأه بعد استقراره، كما فعل الصدّيق رضي الله عنه، إنه لم يغتفر هذا القدر اليسير.
وفي كلام الذهبي: أنه ترك جميع الجهات الدنيوية، فلم يكن يتناول من جهة من الجهات درهماً فرداً، وأنه ما أخذ للأشرفية " فيها بلغتي " جامكية بل اشترى بها كتباً ووقفها.
وقال ابن دقماق: إنه كان يجمع جامكيته عند الناظر، وكلما صار لح حق سنة اشترى له به ملكاً ويوقفه على دار الحديث، أو كتباً فيوقفها على خزائنها.
وقال قاضي صفد العثماني: إنه لم يأخذ معلوماً قط، قال: وباشر مشيخة دار الحديث لمّا تعيّن عليه، فلم يتناول شيئاً من معلومها.
وقال غيرهم: إنه لم يتناول منها شيئاً إلا سنة أو سنتين. ولم يسكن قاعة المشيخة بها، بل سكنها غيره " كما قال التقي السبكي "، قال: وفعله حجة، يعني في إعارة المنافع المختصة بالتدريس والمشيخة ونحوهما، وعليه عمل الناس في تسامحهم في ذلك، على أن القفّال أفتى بخلافته، وأقره الشيخ، ولكنه مشي على ما اقتضاه العُرف، ورأى أنه لم يفت به غرض الواقف، ولذا أعارها، انتهى.
وكان لا يقبل من أحد شيئاً إلا إن تحقق دينه ومعرفته، ممن ليست له به علقة من إقراء أو انتفاع به، قصداً للخروج من حديث: " إهداء القوس "، وربما أنه كان يرى نشر العلم متعيناً عليه، مع قناعة نفسه وصبرها، والأمور المتعينة لا يجوز أخذ الجزاء عليها، كالقرض الجارِّ إلى منفعة، فإنه حرام باتفاق العلماء.
قلت: وحديث القوس المشار إليه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم أبيّ بن كعب، فأخرجه البيهقي في سننه من طريق عطية بن قيس الكلابي، قال: عَلَّم أبيّ بن كعب رضي الله عنه رجلاً القرآن، فأتى اليمن فأهدى له قوساً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن أخذتها فخذ بها قوساً من النار "، وقال: إنه منقطع.
قلت: وأورده الجوزقاني من طريق عبد الرحمن بن أبي أسلم عن عطية، وقال: عبد الرحمن ضعيف.