وقد ذكره القطب اليونيني فقال بعد حكاية ما تقدم قريباً: واتفق أن " الظاهر " عندما فتح الفتوحات المشهورة، وغنم الناس الجواري وتسرُّوا بهن، سئل التاج فرخَّص في ذلك، وصنّف جزءاً في إباحة ذلك من غير تخميس، واستدل بأشياء، منها قَسْمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، " وأنه " أعطى منها من لم يشهدها، وربما فضّل بعض حاضريها على بعض. ثم نقل بعد ذلك في الغنائم أحوالاً مختلفة تُغلَّب على حسب المصلحة. ثم ذكر غزوة حنين وقسم غنائمها، وإنه صلى الله عليه وسلم أكثر لأهل مكة من قريش وغيرهم، حتى أنه يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة، ومعلوم أنه لم يحصل لكل حاضر في هذه الغزاة مثل هذه العدة من الإبل والشياه، ولم يعطي الأنصار شيئاً وكانوا أعظم الكتيبة وجلّ العسكر وأهل النجدة، حتى عتبوا، وهذا حديث صحيح مخرَّج في جميع الأصول المعتمدة في كتب الحديث، وليس في شيء من طرقه: إني إنما نفلت الناس من الخُمس، أو إني قسمت فيكم ما أوجبه قسم الغنيمة وزدت من استألفته من مال المصالح، وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في قسم، وأعدلهم في بيان حق، وأحقَّهم في إزالة شبهة، فلما اقتصر على مدح الأنصار بما رزقهم الله من السابقة في الإسلام، وما خصهم به من محبته صلى الله عليه وسلم إياهم، وسلوك فجِّهم دون فجّ غيرهم، ورجوعهم إلى منازلهم به عوضاً عما رجع به غيرهم من الأموال والأنعام، عَلِم كلُّ ذي نظر صحيح أنه عليه السلام فعل في هذه الغنائم ما اقتضاه الحال من المصالح، من عطاء وحرمان، وزيادة ونقصان، ثم لم يعلم بعد هذا الحكم ناسخ ولا ناقض، بل فعل الأئمة بعده ما يؤكده، ثم قال: ولولا خشية الإطالة لتقصينا الآثار الواردة في قسم الغنائم، من الأئمة الراشدين ومن بعدهم، حتى إن المتأمل المتّبع، لو أراد أن يبين غنيمة واحدة قسمت على جميع ما يقال من كتب الفقهاء من النَّفل والرَّضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل وتعميم كل حاضر، لم يكد يجد ذلك منقولاً من طريق معتمد. واستدل بأشياء كثيرة.
قال القطب: فحصل للناس بقوله قول عظيم، لأن الناس لم يزالوا يغنمون ويستولدون الجواري ويبيعوهن، فيحكم الحكام بصحة بيعهم وشرائهم وإجراء جميع ما يتعلق بهم على حكم الصحة، ولو فتحوا باب وجوب تخميس الغنائم لحرم وطء كل جارية تغنم قبل تخميسها، لأن نكاح الجارية المشتركة حرام، فيؤول ذلك إلى مفاسد كثيرة.
فلما وقف الشيخ رضي الله عنه على ذلك نقضه كلمة كلمة، وبالغ في الرد عليه، ونسبه إلى أنه خرق الإجماع في ذلك، وأطلق لسانه وقلمه في هذا المعنى.
قال القطب ولا شك أن الذي قاله النووي هو مذهب الشافعي وغيره، إلا أنه لم يعمل به في عصر من الأعصار، ولا قيل: إن غنيمة خمِّست في زمن من الأزمان بعد الصحابة والتابعين، ولولا القول بصحة ذلك لكان الناس كلهم بسبب شرائهم الجواري واستيلادهم أياهن في محرمّ، وسائر على الإيناس قاطبة على ما أفتى به التاج، ولم يعمل أحد بما أفتى به الشيخ.
قال: وما كان ينبغي له أن يرد عليه هذا الرد، لعلمه أن بعض العلماء ذهب إليه. قال: وحُكي أن الفتاوى كانت إذا جاءت إلى الشيخ وعليها خط التاج، يمتنع من الكتابة فيها.
وذكر القطب بعد ذلك كلاماً فيه بعض تحامل، مع ما أسلفه من أنه كانت مقاصده جميلة، وأفعاله لله تعالى، رحمهم الله أجمعين.
وكذا كان التاج المذكور لا يطالع كلام النووي، فمن إنصاف ولده أنه قال: كان بين أبي وبين الشيخ منافسة، ولكني أطالع كلامه وأنتفع به.
ولما ترجم العثماني قاضي صفد الشهاب أبا شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي، قال: وهو من مشائخ الإمام النووي. وما رأيته الآن في كلام غيره، وليس ببعيد، بل هو في كلام التقي السبكي في الجزء الذي أفرده لِمَا علَّق الشافعيُّ الحكم فيه على صحة الحديث.
" ٢ - في الطريق " وأفاد السبكي في " الطبقات الكبرى " أن شيخه في الطريق: الشيخ ياسين المراكشي، الماضي، ويشهد له ما أسلفناه عن الذهبي في ترجمته: أن الشيخ كان يخرج إليه ويتأدب معه ويزوره، ويرجو بركته ويستشيره في أمور.