من هنا يتضح لنا بأنه وإن كان تغيير الأمة تغييرًا إيجابيًا كما يحب ربنا ويرضي يستلزم تربية أفرادها على معاني الإسلام؛ فإن نجاح هذه التربية مرهون بوجود أفراد متوهجين بدأوا بأنفسهم وساروا بها في طريق التغيير، وقطعوا فيه شوطا معتبرا حتى يستطيعوا -بعون الله- أن يأخذوا بأيدي الناس ويسيرون بهم في الطريق الذي سبقوهم بالسير فيه.
تبقى نقطة أخيرة في هذه المسألة وهي أن البعض قد يفهم من هذا الكلام أن تربية الناس على معاني الإسلام من خلال المحاور الأربعة السابق ذكرها (المعرفية -والإيمانية- والنفسية- والحركية) يستلزم تحققها بشكل كامل فيمن يريد ممارستها.
لا شك أن الأفضل هو ذلك، ولكن لصعوبة تحققه فينا يبقي الحد الأدنى لممارسة التربية مع الآخرين هو أن نربيهم على ما تحقق فينا بصورة مرضية، وكلما استكملنا جديدًا في أنفسنا قمنا بتربيتهم عليه، وبذلك يمكن أن يقوم بأمر تربية الأمة عدد كبير من الدعاة والعاملين للإسلام، وكل من يتوق إلى خدمة الدين .. فالفتى عليه أن يقوم بتربية الأطفال على ما تحقق فيه، والشاب يقوم بتربية الفتيان على ما تمثل فيه، والرجل يقوم بذلك مع الشباب، والنساء مع الفتيات والأطفال وذلك في كل مكان يتيسر فيه المعايشة والتعاهد، ويأتي على رأس ذلك: المسجد فهو المحضن التربوي الأول الذي ينبغي أن يستفيد منه الجميع في إنجاح العملية التربوية بإذن الله.
فإن قلت: أريد تفصيلا أكثر للمحاور الأربعة التي سأقوم بتربية نفسي ومن حولي عليها .. كان الجواب: هذا مما ستتضمنه الصفحات القادمة بمشيئة الله.
* * *
المحور الأول
العقل والتربية (المعرفية)
خلق الله عز وجل الإنسان وأسكنه الأرض، وأتاح له حرية الاختيار، وطالبه بعبادته بالغيب "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: ٥٦].
وجوهر العبادة هو استسلام العبد لله سبحانه، وطاعة أوامره، ودوام الاستعانة به والتوكل عليه في الأمور كلها، مع حبه وإجلاله وتعظيمه وهيبته وخشيته.
ولكن كيف يمارس الإنسان هذه الصورة من العبودية لله عز وجل وهو لا يراه؟
كيف يعظم أو يهاب أو يخشى أو يحب أو يطيع من لا يراه؟!
الإجابة عن هذه الأسئلة تنطلق من حقيقة مفادها أن الله عز وجل لا يطالب أحدًا بشيء فوق وسعه "لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: ٢٨٦]، لذلك فقد هيأ للإنسان من الأسباب والإمكانات ما يعينه على أداء وظيفته كعبد له سبحانه، وذلك من خلال أمرين عظيمين.
الأمر الأول: أن الله عز وجل قد أودع في الكون المحيط بالإنسان -بل وفي الإنسان ذاته- الكثير والكثير من المعلومات التي تدل عليه.
الأمر الثاني: أنه -جل ثناؤه- قد أعطى للإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع جمع تلك المعلومات عن ربه، ليتسنى له معرفته، ومن ثم عبادته.
[الكل يعمل من أجلك]
نعم، فكل ما تراه عيناك قد خُلِق من أجلك أيها الإنسان "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا" [البقرة: ٢٩].
هذه الجبال الشاهقة .. هذه البحار العظيمة .. هذه الأنهار .. الأشجار .. الدواب .. الحشرات .. الطيور .. الأسماك .. الجمادات .. الشمس .. القمر .. النجوم .. السماء .. الأرض ... كل هذا مخلوق لك "وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ" [الرحمن: ١٠].
الكل مُسخَّر لك ومخلوق من أجلك لكي تنجح في مهمة عبادة ربك بالغيب "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" [الجاثية: ١٣].
فالأرض وما عليها، والسماء وما تحتها خُلقت من أجلك .. من أجل تعريفك بربك؛ وتيسير حياتك الدنيوية.