فإن كان الأمر كذلك؛ فإن تفريط الأمة في القيام بهذين الأمرين: (أن تتمثل في ذاتها الرسالة، وأن تقوم بتبليغها) يضعها في دائرة العتاب والغضب الإلهي، وكيف لا وهي بذلك قد قصرت في أداء الأمانة التي ائتمنها الله عليها، وتخلت عن موقعها الريادي للبشرية، وما ينتج عن ذلك من ضياع الكثيرين والكثيرين حين يموتون على الكفر رغم ما فيهم من خير مخبوء وشوق إلى الهداية.
إن الخسارة التي تخسرها البشرية بتخلي أمة الإسلام عن وظيفتها خسارة فادحة، فالآلاف -كل يوم- يموتون على الضلالة والكفر، ولو أن الرسالة قد بلغتهم بطريقة صحيحة لآمن الكثير منهم.
[لماذا نعاقب؟!]
لعل ما قيل في الأسطر السابقة يجيب عن الأسئلة التي تتردد على ألسنة المسلمين كلما ازداد حال الأمة سوءًا، وكلما تعالت هجمات أعدائها عليها ... فمن هذه الأسئلة: لماذا نعاقب بهذه العقوبات المتولية؟! إلى متي الذل والهوان الذي تعيشه أمتنا منذ أمد بعيد؟ لماذا يتركنا الله هكذا نسام سوء العذاب من اليهود وغيرهم وهو سبحانه قادر بأن يكف بأسهم عنا وينصرنا عليهم؟
إن الرؤية الإيمانية لهذه العقوبات لابد وأن تنطلق من عدة أمور.
أولها: أن هذا العقوبات تأتي بعلم الله وإذنه ومشيئته "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ" [آل عمران: ١٦٦] .. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" [الأنعام: ١١٢].
وثانيها: أن هذا العقوبات صورة من صور العتاب الإلهي للأمة لأنها تخلت عن رسالتها، ولم تعمل بما تضمنته، وتركت مهمة توصيلها وإبلاغها للبشر جميعًا.
"أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران: ١٦٥].
وثالثها: أن هذه العقوبات تعد بمثابة وسيلة قوية لإيقاظ الأمة وإفاقتها من غفلتها، وإعادتها إلى رشدها "وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الزخرف: ٤٨]، .. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (١).
إصلاح الداخل أولاً:
لا يمكن للأمة أن تؤدي أمانة البلاغ، ومن ثم الشهادة على الناس إلا إذا تمثلت في أبنائها معاني الرسالة؛ فيستمدون منها -بعون الله- القوى الروحية الدافعة للعمل والجهاد، ويستشعرون من خلال تطبيقها الصحيح معنى العزة بالله، فتفيض عليهم السعادة في كيانهم، فينطلقون راشدين لتحقيق مراد ربهم بأن يكون الدين كله لله.
وحين يهملون تطبيق الرسالة: تنحط اهتماماتهم، وينكفئون على ذواتهم، ويصبح جُلَّ تفكيرهم في كيفية تحصيل متطلبات الطين، وشهوات النفس.
من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة لرفع العقوبات عن الأمة، وتغيير ما حاق بها ونزل بساحتها؛ هو إصلاحها من الدخل "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: ١١].
فإن لم يحدث ذلك؛ فستظل العقوبات والمحن تتوالى عليها، ولن يرفعها مجرد الدعاء أو المساعدات للمنكوبين -على أهميتها- بل لابد من دفع ضريبة التغيير الحقيقي.
وحتى لو هدمت المساجد، وقُتل النساء والأطفال هنا وهناك فلن يُرفع البلاء إلا إذا سرنا في طريق التغيير "وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا" [الإسراء: ٨].
والتغيير المنشود يشمل كيان الإنسان بمحاوره الأربعة:
أولا: تغيير وإصلاح المفاهيم والتصورات في العقول، وإعادة بناء اليقين الصحيح فيها.
ثانيا: إصلاح الإيمان في القلوب وتقوية الإرادة.
(١) صحيح، رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٤٢٣).