[أفلا تتقون؟]
ولقد أخبرنا القرآن عن أناس يقرون بربوبيته -سبحانه- على جميع خلقه، وبقيامه على شئونهم، ومع هذا الإقرار فهم لا يخشونه، ولا يستسلمون له، وهذا يؤكد أن إقرارهم كان إقرارًا عقليًا محضًا ولم ينشأ به إيمان في القلب، ومن الآيات التي تخبرنا بذلك قوله تعالى: "قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [المؤمنون: ٨٤ - ٨٧].
وقوله: "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [يونس: ٣١].
بل إن القرآن الكريم يقص علينا حال أناس يقرون بأنفسهم - بوضوح شديد- أن الإسلام هو الهُدى، لكنهم لا يستطيعون اتباعه خوفًا على حياتهم ومصالحهم "وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا" [القصص: ٥٧].
من هنا تظهر أهمية التربية الإيمانية؛ فلئن كانت التربية المعرفية تهدف إلى إنماء العقل بالعلم النافع الراسخ ألا وهو العلم بالله عز وجل، فإن تربية القلب الصحيحة تهدف إلى: تمكين الإيمان بهذه المعرفة وترسيخها فيه حتى تهيمن عليه، وتقهر الهوى، فيسهل على المرء القيام بأعمال العبودية بصورها المختلفة.
معنى ذلك أن تغيير السلوك تغييرًا حقيقيًا إيجابيًا لابد أن ينطلق من إصلاح القلب بالإيمان، وعندما نشاهد تغييرًا سلبيًا في السلوك فإن ذلك يعكس تمكن الهوى من القلب وضعف الإيمان فيه.
[عندما يضعف الإيمان]
لعل هذا الحديث عن الإيمان وعلاقته بالسلوك يفسر لنا ظاهرة ابتعاد الفعل عن القول، والعمل عن العلم.
فكلما ضعف الإيمان تمكن الهوى؛ لأن مساحة القلب واحدة؛ ليترتب على ذلك آثار سلبية خطيرة تزيد وتنقص بحسب درجة ضعف الإيمان.
فمن آثار ضعف الإيمان: أنك قد تجد شخصا كثير الحديث عن القيم، والمثل، والأخلاق، لكنه يمارس عكس ما يتحدث عنه، وفي بعض الأحيان تجده وقد اعتراه الضيق من حاله وواقعه لكنه لا يستطيع تغييره لأن هواه قد سيطر على إرادته واستولى عليها.
ومن آثار ضعف الإيمان أيضًا: الترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه، والتساهل والتباطؤ في تنفيذ أوامر الشرع، والبحث عن الرخص والأعذار، وتبني الآراء المرجوحة والضعيفة لإيجاد المبرر والمسوِّغ للتفلت من التطبيق الصحيح للدين.
ومن آثاره: شدة الاهتمام بالدنيا، والحرص على تحصيلها، وارتفاع سقف الطموحات فيها، وانشغال الفكر بها، مع كثرة أحلام اليقظة بالثراء والرفاهية.
ومن تلك الآثار: شدة الحرص على المال والحزن الشديد على نقصانه، ودوام إحصائه، وكثرة التفكير في سبل إنمائه، واستيفاء المرء لحقه المالي التام من الآخرين، وفي المقابل قد نجده يحاول التملص من أداء واجباته والتزاماته المالية كاملة تجاههم.
ومنها: شدة تركيز المرء في أمور الدنيا، فتجده متابعًا جيدًا لأسعار العملات، والأراضي، والعقارات، والسيارات ...
ومنها: ضعف الورع، والوقوع في دائرة الشبهات، والاقتراب من دائرة المحرمات كاستسهال الكذب وعدم قول الحقيقة كاملة، وعدم الوفاء بالعهود والمواعيد.
ومنها: الحسد، حيث تتجه نظرة المرء إلى دنيا غيره - وبخاصة أقرانه - أكثر من اتجاهها إلى دينهم، وتترجم هذه النظرة شعوره الداخلي بالضيق عندما يرى عليهم علوًا جديدًا في الدنيا.