للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل هذه وغيره قد يؤدي إلى نفور الناس منه، وضيقهم من حديثه، وعدم العمل معه بتفان وحب، فكما يقول مصطفي السباعي -رحمه الله-: «إن نصف الذكاء مع التواضع أحب إلى قلوب الناس وأنفع للمجتمع من ذكاء كامل مع الغرور» (١).

[نماذج مضيئة]

أدركت الأجيال الأولى خطورة إهمال تزكية النفس، والسكون إليها، والرضا عنها وأدركوا أن أخطر آفة يمكن أن تصيب المرء هي أن يذوق طعم نفسه، فيطوع كل أعماله وأقواله وحركاته لإسعادها، وسقايتها ما تستلذ به فكانت أحوالهم وأقوالهم تدل على ذلك.

ولقد كان قدوتهم في هذا الأمر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين .. أخرج ابن المبارك في الزهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُتي له بطعام فقالت له عائشة: لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك، فأصغي بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها وقال: «بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد» (٢).

ومن أقوله: «إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» (٣).

ومن صور استصغاره وتواضعه مع نفسه قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال: "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ"» [يوسف: ٥٠] (٤).

وعندما دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» (٥).

وهذا صاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يصعد على المنبر في أول خطبة يخطبها بعد توليه الخلافة ويقول: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم»، مع إنه بنص الأحاديث النبوية خير الأمة، ولكنه لم يعش مع هذه الحقيقة، ولم يتجاوب معها، بل كان دائم الحذر من نفسه، وكان يلبس خاتما نُقِش عليه: «عبد ذليل لرب جليل».

وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لبست مرة درعا لي جديدة فجعلت أنظر إليها، فأعجبت بها. فقال أبو بكر: ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك، قلت: ومم ذاك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته الله عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟

قالت: فنزعته فتصدقت به .. فقال أبو بكر: عسي ذلك أن يكفِّر عنك (٦).

وهذا أبو عبيدة بن الجراح وقد أم قوما يوما، فلما انصرف قال: ما زال الشيطان بي آنفا حتى رأيت أن لي فضلا على من خلفي، لا أؤم أبدًا (٧).

ونادى عمر بن الخطاب يوما: الصلاة جامعة .. وصعد المنبر وقال: أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب، فأظل في يوم وأي يوم .. ثم نزل!!

فقال عبد الرحمن بن عوف: والله يا أمير المؤمنين ما زادت على أن قمئت نفسك.

فقال عمر: ويحك يا ابن عوف، إني خلوت فحدثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.

وقال عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفس نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها (٨).

* * *


(١) هكذا علمتني الحياة لمصطفي السباعي.
(٢) الزهد لابن المبارك برقم (١٩٣) في زيادات نعيم بن حماد ص (٥٣).
(٣) رواه مسلم.
(٤) صحيح، أخرجه الإمام أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٣٤٩١).
(٥) صحيح الجامع الصغير (٧٠٥٢).
(٦) العجب لعمر بن موسي ص ٩٨، نقلا عن حلية الأولياء لأبي نعيم ١/ ٣٧.
(٧) الزهد لابن المبارك برقم (٨٣٤) ص ٢٨٧.
(٨) صلاح الأمة في علو الهمة للعفاني ٥/ ٤٣٥.

<<  <   >  >>