للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمتأمل في كتب السير والتراجم يجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا أكثر صلاة وصياما ممن جاءوا من بعدهم، ولم يؤثر عن أحدهم أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء كذا وكذا سنة، بل كانوا ينامون ويستيقظون بالليل .. يصومون ويفطرون .. يضحكون ويبكون .. ومع ذلك كانوا أكثر الخلق بعد الأنبياء قرباً من الله عز وجل وعبودية له بقلوبهم.

يقول ابن مسعود مخاطباً نفراً من التابعين: أنتم أكثر صلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: وبم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة (١).

[أين الأثر؟]

ومع قيمة العبادة العظمى في كونها تظهر معاني العبودية لله عز وجل من ذل وافتقار وانكسار وخضوع واستسلام؛ فإنها أيضًا تقوم بوظيفة كبيرة في تحسين السلوك، والاستقامة على أمر الله، وذلك من خلال زيادة الإيمان التي تصاحب تحرك القلب وتجاوب المشاعر مع تلك العبادة ليقوم الإيمان بدوره في دفع المرء للقيام بالأعمال الصالحة: {(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:٣٢].

فأسرع الناس إلى فعل الخيرات هم أكثر الناس إيماناً وخشية وتعبيداً لمشاعرهم وقلوبهم لله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:٥٧ - ٦١].

ولئن كان إظهار العبودية لله عز وجل من أهم مقاصد العبادات، فإن من مقاصدها كذلك تحسين السلوك، ودفع المرء إلى الاستقامة على أمر الله.

فالصلاة من شأنها أن تُشعر المسلم بخضوعه وانكساره لربه، وهي وسيلة عظيمة للاتصال به - سبحانه -، ومناجاته، واستشعار القرب منه، والأنس به، والشوق إليه، فتكون نتيجتها زيادة خضوع المشاعر لله عز وجل {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: ١٠٩].

وبذلك تقرب الصلاة العبد من ربه {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: ١٩].

ومن نتائجها كذلك: زيادة الإيمان في القلب، فإذا ما زاد الإيمان: تحسن السلوك، فتزداد مسارعته لفعل الخير، ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته لفعل المعاصي أو الاقتراب منها فيتحقق بذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: ٤٥].

فإن لم تفعل الصلاة ذلك، ولم يظهر أثرها في سلوك المرء، فإن هذا يعني عدم زيادتها للإيمان، وعدم إظهارها لمعاني العبودية، ومن ثَمَّ فقد فقدت روحها والمقصد الأعظم منها.

المشاعر أولاً:

من هنا تتضح لنا أهمية العبودية وضرورة تمكنها من المشاعر أولًا لتأتي العبادة فتعبر عنها وتزيدها رسوخاً في القلب ومن ثَمَّ انعكاساً على السلوك، ومما يؤكد هذا المعنى أن التربية الربانية للجيل الأول كانت تركز على العبودية وزيادة الإيمان في القلب أولاً قبل تشريع العبادة، فكما قيل بأن الإسلام بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع.

إنه لأمر عجيب أن تُفرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، ويفرض الصيام وسائر التشريعات في المدينة بعد سنوات من البعثة .. فما كان الذي يفعله المسلمون الأوائل في مكة إذن؟

ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه ساعتها تكاليف يؤديها أو محظورات يجتنبها؟!


(١) حياة الصحابة.

<<  <   >  >>