للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معنى العبودية

كرَّم الله عز وجل الإنسان تكريمًا عظيمًا، وفضله على كثير من خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: ٧٠].

هذا التكريم العظيم للإنسان يعكس مدى حب الله عز وجل له، ومنزلته عنده.

ولقد علمت الملائكة بهذه المنزلة فجعلت جزءًا من عبادتها: دعاءها واستغفارها للناس، وهي بذلك تريد التقرب إلى الله - سبحانه - وتطمع في نيل رضاه {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: ٥].

ويزداد دعاؤهم واستغفارهم لمن لهم مكانة خاصة عنده - سبحانه - من البشر المؤمنين لعلمهم بحب الله لهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: ٧ - ٩].

[الجنة تنتظرك]

ومن أعظم الدلائل التي تؤكد على المنزلة الخاصة للبشر عند الله: إعداده - سبحانه - الجنة لتكون لهم دارًا أبدية .. يقيمون فيها إقامة دائمة بلا تعب ولا نصب ولا تكاليف يؤدونها .. بل نعيم مقيم لا يحول ولا يزول {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: ٧١].

ولقد جعل سبحانه دخول هذه الجنة مرتبطًا بالنجاح في اختبار يُعقد على ظهر الأرض لجميع البشر ..

جوهر هذا الاختبار: عبادته سبحانه بالغيب، والقيام بحقوق العبودية له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ٢١].

[أحب الخلق إلى الله]

يلاحظ المتدبر لآيات القرآن أن الله عز وجل عندما يمتدح أحداً من رسله وأنبيائه، فإنه سبحانه يصفه بوصف العبودية، كقوله تعالى عن نبيه داود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:١٧].

وقوله تعالى عن سليمان: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٣٠].

وقد تكرر وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} [الإسراء:١].

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً} [الجن: ١٩]

معنى ذلك أن العبودية هي الصفة التي يحب الله عز وجل أن تتمثل في الإنسان: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:٤٥ - ٤٧].

فأحب الخلق إليه - سبحانه - أكثرهم عبودية له.

[جوهر العبودية]

العبد عكس الحر وهو المملوك لسيده، وأصل العبودية: الخضوع والتذلل (١) فالطريق «مُعَبَّد» إذا كان مذللا بكثرة الوطء (٢).

فالعبودية إذن صفة ينبغي أن يعيش المرء حقيقتها، وأن تُظهرها صورة تعامله مع ربه من ذل وانكسار وخضوع وافتقار، وطاعة وهيبة وإجلال، وتعلق تام به، وفوق هذا كله: حبٌ عظيمٌ له ..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمن خضع لإنسان مع بغض له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن له عابدًا" (٣).


(١) لسان العرب لابن منظور (٣:٢٧١) - دار صادر بيروت.
(٢) المصدر السابق.
(٣) العبودية لابن تيمية، ص (٣٤) - مكتبة دار الأصالة - الإسماعيلية - مصر.

<<  <   >  >>