للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان يقول: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك، وعقلك، وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ربك، ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئًا، فإذا كنت كذلك لم تُبال في بَرٍّ كنت أو في بحر، أو في سهل، أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطش في اليوم الصائف (١)

[المعرفة المؤثرة]

فإن قلت: ولكننا نعرف الله عز وجل، ونعرف قدرته وعظمته وفضله علينا ومع ذلك لا نتعامل معه بما يستحقه - سبحانه - ولا نشعر بقربه ولا نأنس به ... ؟!

نعم، أغلبنا يشتكي من جفاء في علاقته ومعاملته مع الله، مع ما ندعي من معرفته سبحانه وأن الأمر كله بيده، والسبب في ذلك هو أن المعرفة المطلوبة والتي من شأنها أن تغير طريقة المعاملة، وتحسن العلاقة بين العبد وربه، لابد أن تكون معرفة قوية ترسخ في يقين الإنسان وتؤثر في قلبه، أو بعبارة أخرى: تؤثر في مشاعره باعتبار أن القلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان، ومن ثَمَّ تشكل هذه المعرفة جزءاً أصيلاً من إيمانه، كما قال الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:٥٤].

أما المعرفة المحدودة العابرة فلا يمكنها أن تؤثر تأثيراً مستمراً في حياة العبد، والدليل على ذلك أننا عندما نسمع محاضرة عن فضل الله علينا وتوالي نعمه وإمداده، فإن المشاعر تتجه بالحب إليه سبحانه، ثم بعد ذلك تخفت حرارة تلك المشاعر بانتهاء أثر الكلام الذي سمعناه، وهذا هو الفارق بين الحالة الإيمانية العارضة، وبين الحالة الإيمانية المستقرة.

فالحالة العارضة هي الحالة الشعورية العابرة التي تنتاب المرء عندما تُستثار مشاعره في اتجاه ما.

هذه الحالة سرعان ما تزول وذلك عندما تعود المشاعر إلى حالتها الأولى، فنجد الشخص يتأثر بالموعظة المؤثرة وقد ويبكي وينتحب ثم بعد ذلك يعود إلى سابق عهده من الانشغال بالدنيا والغفلة عن الآخرة، فإذا استمر الطرق على المشاعر بدوام الوعظ والتذكير: استمرت الحالة الشعورية للشخص، وشيئا فشيئا تستقر في المشاعر، أي تُشكل هذه الحالة جزءاً ثابتاً من المشاعر، ومن ثَم يسهُل استثارتها بأدنى مؤثر، وتصبح منطلقا دائما للسلوك.

وهذا هو الفارق بين الإيمان الأصيل الثابت الذي يستقر في القلب وتصدقه الأعمال، وبين الإيمان اللحظي العابر الذي يُنتج أعمالاً آنية وغير مستمرة.

يقول الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال (٢) ..

معنى هذا أننا بحاجة إلى أن نجعل معرفتنا بالله تتحول إلى إيمان يستقر في القلب ويرسخ فيه وينمو شيئا فشيئا حتى يشكل الجزء الأكبر من المشاعر، فيصير حبه سبحانه أحب الأشياء لدينا وخشيته أخوف الأشياء عندنا، وهكذا في بقية المشاعر فتظهر تبعاً لذلك الثمار الطيبة لهذه المعرفة النافعة كما قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون اللهُ ورسولهُ أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار" (٣).

فإذا ما اكتفت المعرفة بمخاطبة العقل فقط، ولم تصل إلى المشاعر، ولم يستقر مدلولها فيها، ستظل هذه المعرفة حبيسة العقل، ولن تظهر ثمارها في السلوك.


(١) جامع العلوم والحكم ص ٨٤، دار ابن الجوزي.
(٢) شعب الإيمان للبيهقي (١:٨٠).
(٣) متفق عليه.

<<  <   >  >>