ومع التكرار في عرض حقائق المعرفة بالله عز وجل تأتي لغة الخطاب المعجز الذي لا يخاطب العقل فقط كما يحدث في الكثير من الكتب التي تعرض الحقائق العلمية - مثلا - والتي من شأنها أن تُضخم العقل دون أن يواكب ذلك تأثير واضح على المشاعر، مما يجعلها ضعيفة الأثر على السلوك .. فالمتأمل لخطاب القرآن يجده يمزج الفكر بالعاطفة .. يستثير كوامن العقل، ويستجيش المشاعر في وقت واحد مما يزيد الإيمان ويولد الطاقة، ويدفع صاحبه للقيام بمقتضى ذلك الإيمان من أعمال البر المختلفة.
يقول محمد الغزالي - رحمه الله-:
هذا الكتاب يعرف الناس بربهم على أساس من إثارة العقل، وتعميق النظر، ثم يحول هذه المعرفة إلى مهابة لله، ويقظة في الضمير، ووجل من التقصير، واستعداد للحساب (١).
ومما يساعد العبد كذلك على تحويل الحقائق التي يطرحها القرآن إلى إيمان يرسخ في القلب: قيامه بقراءة القرآن بالطريقة التي أمرنا الله بها: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:٤] فترتيل القرآن والتغني به وتحسين الصوت عند تلاوته مع فهم المراد منه له وظيفة كبيرة في استثارة المشاعر ومزج الفكر بالعاطفة ومن ثَمَّ زيادة الإيمان في القلب.
[ألوان العبودية]
عندما تستثار العاطفة تجاه قضية ما فإن هذا يعني دخول صاحبها في حالة إيمانية، فإذا ما استمر الطرق على مشاعره في نفس الإتجاه استقرت تلك الحالة المشاعرية، أو بمعنى آخر وقر الإيمان بهذه القضية في القلب، وهذا من شأنه أن يثمر سلوكاً يُصَدِّق هذا الإيمان، وهذا ما يفعله القرآن بمزجه الدائم بين الفكر والعاطفة، وبشدة طرقه على المشاعر، وتكرار هذا الطرق، أي أنه يُنشئ الإيمان في القلب ويجعل المشاعر تتجه إلى الله.
مع الأخذ في الاعتبار أن القرآن يفعل ذلك مع كل ما ينبغي الإيمان به، فعلى سبيل المثال: لا يكتفي القرآن بتوجيه مشاعر الخوف من الله فقط بل يوجه جميع المشاعر من حب وخوف ورجاء وطمع وفرح وسكينة إليه سبحانه، أي أن القرآن يُنشئ الإيمان في القلب بقاعدته العريضة، ويجعل صاحبه يتقلب في جميع صور العبودية لله عز وجل حسب الظرف القائم أمامه، فهو أمام السراء تجده يشعر بالامتنان تجاه ربه، وأمام الضراء تجده راضياً مستسلماً للقضاء .. يعيش دوما في حالة الافتقار إلى الله والانكسار الدائم له، والشعور بأنه لا قيام له ولا حياة ولا رشاد إلا به سبحانه.
[منهج القرآن في التعريف بالله]
ولقد أفاض سيد قطب - رحمه الله - في كتابه مقومات التصور الإسلامي في بيان منهج القرآن في التعريف بالله، وتحويل هذه المعرفة إلى إيمان حي يدفع للسلوك القويم فكان مما قاله:
(١) المحاور الخمسة في القرآن - للشيخ محمد الغزالي، ص (١٢٠).