{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ... الآية ٣٠ البقرة} فالحكم لا يكون إلا بما أمر الله وما قرر من أحوال، لعلمه بما تختص به بعض المخلوقات عن بعض، كما رد الله على قول الملائكة تمام الآية {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، والشاهد في القصة أن رسول الله إلى البشر لو لم يكن منهم لبغى عليهم، حتى لو كان من الملائكة، لعدم معرفته بحالهم وما يصلح للحكم بينهم، كما أن داود ظلم في حكمه بين الملائكة لذات السبب، فكيف تعجبون بأن الرسول منكم وهي رحمة من الله، ولو جعله الله مَلَكا لقضي عليكم من جهتين، سواء أردتم ذلك أم أراد الله ذلك، فإذا أردتم ذلك لقضى عليكم بالحكم في أبسط المعاصي، كما قضى الملائكة في أبيكم آدم، وإذا أراد الله أن يكون ملَك فسيكون مبعوثاً من الله لإنفاذ حكمه، كما هو الحال في الأمم قبلكم، وهو ما جاء في قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}[الأنعام: ٨] ولو أردتم أن يكون ملَك ويحكم بحكم البشر، لكان على هيئة البشر لاستحالة رؤيته على هيئته، ولعدتم لِما تقولون مهما كانت أحكامه كما في قوله تعالى بعدها {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)} ولكن داود عليه السلام لم يحكم فقط، بل أعطاهم الحكمة ليهديهم سواء الصراط، فبين لهم سبب الخلاف بقوله إن سنة الله في الخلطاء أن يبغي بعضهم على بعض في أكثر الأحيان، إلا من آمن منهم وعمل الصالحات، وهم القلة، ولكن الباغون هم الأكثر، وقياسه هنا كان بين الخلطاء في الأرض والخلطاء في السماء وهو القياس الخاطئ، وليس الخطأ في الحكمة، ولوضوح الفكرة في موطن الفتنة تنبه داود عليه السلام لها بعد إصداره للحكم. ولبيان ذلك نقول لو كانت الرواية عن قاض عادل تفاجأ بوجود شخصين في صدر بيته في ساعات الليل أو في وقت راحته، فخاف منهما لصعوبة الموقف، فبادراه بالقول لا تخف إنما أتيناك نسألك في مسألة لتقضي بيننا، هذا يملك أرضاً مساحتها آلاف الأمتار، ولي بجانبها مئة متر، ويريد أخذها مني، فماذا سيقول؟ من المؤكد أنه سيجيب على سؤالهم، ولكن ستبقى في نفسه حيرة من أمرهم وأمر سؤالهم، فإن ذهبوا ورضوا بحكمه، علم أنهم سفهاء، وإن لم يرضوا بحكمه علم أن من وراء السؤال فتنة، إما أنّهم جاءوا يقصدون الشر أو كانوا يستنطقونه بهذا الحكم لغاية في