للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على تحريم تلك الآلات يندَفِع قول الغزالي: القياس تحليل العُود وسائر الملاهي، ولكنْ ورد ما يقتضي التحريم، ا. هـ.

ووجْه اندِفاعِه أنَّ ما فيها من المعاني الموجِبة للحُرمة مع صِحَّة الحديث بِحُرمتها وقِيام الإجماع عليها يُلغِي ما قالَه من القياس لو فُرِضت صحَّته، فكيف وهو لم يصحَّ؟! وإنما القياس فيها الحرمة لما عُلِمَ واستقرَّ فِي الشرع من أنَّ وسائل المعاصي مَعاصٍ مثلها، وهذه الآلات كذلك كما تقرَّر، وأصلُ هذا قول إمامِه فِي بعض آلات الملاهي: القياس تحليلُها، فإنْ صحَّ الخبر قُلنا بتحريمه وإلا توقَّفنا، قال بعض شراح "المنهاج": لم يصحَّ، وليس كما زعَم، بل صحَّ الخبر من طُرُقٍ عديدةٍ لا مَطعَن فيها كما سبق.

ثم رأيتُ الغَزالي ذكر ما يدفَع ما مرَّ عنه؛ فإنَّه قال فِي "الإحياء" (١): والمنع من الأوتار كلِّها لثلاث علل:


(١) قال الغزالي في "الإحياء" (٢/ ٢٧٢) ط دار المعرفة بيروت: ولا يُستَثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورَد الشرع بالمنع منها لا للذَّتها؛ إذ لو كان للذة لقِيس عليها كلُّ ما يلتذُّ به الإنسان، ولكن حُرِّمتِ الخمور واقتضَتْ ضَراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسْر الدِّنان، فحرم معها ما هو شِعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قِبَل الأتباع كما حُرِّمت الخلوة بالأجنبية؛ لأنَّها مقدمة الجماع، وحرم النظر إلى الفخذ لاتِّصاله بالسَّوْأتين، وحرم قليلُ الخمر وإنْ كان لا يُسكِر؛ لأنَّه يدعو إلى السُّكر، وما من حَرامٍ إلا وله حريم يطيف به، وحُكم الحرمة ينسَحِب على حريمه ليكون حمًى للحَرام ووقاية له وحظار مانعًا حوله كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ لكلِّ ملك حمًى، وإنَّ حمى الله محارمه))، فهي محرَّمة تبعًا لتحريم الخمر لثلاث علل:
إحداها: أنها تدعو إلى شُرب الخمر فإنَّ اللذَّة الحاصلة بها إنما تتمُّ بالخمر، ولمثْل هذه العلَّة حُرِّمَ قليلُ الخمر.
الثانية: أنها في حقِّ قريب العهد بشُرب الخمر تذكر مجالس الأنس بالشرب فهي سبب الذِّكر، والذِّكر سبب انبِعاث الشَّوق وانبعاث الشَّوق إذا قوى فهو سبب الإقدام، ولهذه العلة نهى عن الانتِباذ في المزفت والختم والنقير؛ وهي الآواني التي كانت مخصوصةً بها، فمعنى هذا: أنَّ مشاهدة صُورتها تُذكِّرها، وهذه العلَّة تُفارِق الأولى؛ إذ ليس فيها اعتبار لذَّة في الذِّكر؛ إذ لا لذَّة في رُؤية القنينة وأواني الشُّرب لكنْ من حيث التذكُّر بها، فإنْ كان السَّماع بذِكر الشُّرب تذكيرًا يُشوِّق إلى الخمر عند مَن أَلِفَ ذلك مع الشرب فهو منهي عن السماع لخصوص هذه العلَّة فيه.
الثالثة: الاجتماع عليها: لما أنَّ صار من عادة أهل الفِسق فيُمنَع من التشبه بهم؛ لأنَّ مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، وبهذه العلَّة نقول بترك السنَّة مهما صارت شعارًا لأهل البِدعة؛ خوفًا من التشبه بهم. وبهذه العلة حرم ضرب الكُوبة، وهو طبلٌ مستطيلٌ دقيق الوسط واسع الطرفين، وضربها عادة المخنَّثين ولولا ما فيه من التشبيه لكان مثل طبل الحجيج والغزو، وبهذه العلَّة نقولُ: لو اجتمع جماعةٌ وزيَّنوا مجلسًا وأحضروا آلات الشرب وأقداحه، وصبوا فيها الكنجين، ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم، فيأخُذون من الساقي ويشربون ويحيِّي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم - حرم ذلك عليهم، وإنْ كان المشروب مباحًا في نفسه؛ لأن في هذا تشبُّهًا بأهل الفساد، بل لهذا يُنهَى عن لبس القباء وعن ترْك الشعر على الرأس قزعًا في بلادٍ صار القباء فيها من لباس أهل الفساد، ولا ينهى عن ذلك فيما وراء النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم، فبهذه المعاني حُرِّمَ المزمار العراقي والأوتار كلها؛ كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها، وما عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرُّعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل والقضيب، وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل الشرب؛ لأنَّ كلَّ ذلك لا يتعلَّق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب التشبُّه بأربابها فلم يكنْ في معناها، فبقي على أصل الإباحة قياسًا على أصوات الطيور وغيرها، بل أقول سماع الأوتار ممَّن يضربها على غير وزن متناسب مستلذ حرام أيضًا، وبهذا يتبيَّن أنَّه ليست العلَّة في تحريمها مجرَّد اللذة الطيِّبة، بل القياس تحليلُ الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد؛ قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢]، فهذه الأصواتُ لا تحرم من حيث إنها أصواتٌ موزونةٌ، وإنما تحرم بعارضٍ آخَر كما سيأتي في العوارض المحرَّمة.

<<  <   >  >>