فالحقيقة الجغرافية لمنابع النيل معروفة، ولكن عظمة النيل وجلال ما له من أياد، حتى لكأنه يفيض سلسبيلا من عليا الجنان، أوحيا إلى شوقى بهذا التساؤل الشعرى البارع.
تلك هى علوم الأدب، أما الأدب نفسه: شعره ونثره، ففن من الفنون الجميلة، وهو لذلك ينبع من الموهبة، ويفيض من الفطرة، ثم تسدده هذه العلوم وتهدى خطاه، وإن نظرة إلى تلك العلوم نفسها، تجعلنا نؤمن بأن الناقد حين ينقد، فى حاجة إلى تلك العلوم نفسها، عند تقدير النص الأدبى وتقويمه، ومن أجل هذا صح لنا القول بأن تلك علوم الأدب: إنتاجا ونقدا، فالناقد، فضلا عن حاجته إلى العلوم اللغوية، فى حاجة- كالأديب- إلى الإلمام بمختلف الثقافات، حتى يستطيع أن يحكم على النص حكما صادقا خالصا.
أما النقد نفسه فكالأدب، فن من الفنون، يعتمد على الموهبة والفطرة، ويتكئ على ما قدمنا من العلوم، لبيان وجه جمال الجميل، وقبح القبيح.
وقد طال الحديث عن صلة النقد بالذوق، حتى لقد قيل إن النقد يعتمد على الذوق وحده، وهذا صحيح إلى حد كبير، فهذا الذوق هو الملكة الموهوبة، التى يستطاع بها تقدير الأدب الإنشائى، وإننا إذا تدبرنا حقيقة الأمر، رأينا أن كل تعليل بلاغى، هو تفسير لهذا الذوق السليم، وتعليل عقلى له، فليس تعليلك لجمال النص بأن فيه إيجازا، أو إطنابا، أو حذفا، أو تقديما، سوى تفسير عقلى لذوقك الذى أحس بجمال النص.
وإذا كانت الملكات في النفوس كالبذور، تحتاج إلى التربة الصالحة، والغذاء والماء فكذلك ملكة الأدب ونقده، فى حاجة إلى الرى، والغذاء، وذلك إنما يكون بدراسة ما أسلفناه من علوم، وبالتملؤ من الأدب القوى، وبالقراءة الأدبية الفاحصة، والمران على تقويم النصوص، والبحث عن أسرار جمالها، ومناحى لونها، وبذلك يقوّم الذوق ويستقيم حكمه.
غير أن هذه التربة الصالحة التى يجب أن يغتذى الذوق منها، تحتاج إلى جهد جهيد، وتضافر قوى الباحثين والدارسين، حتى تصبح صالحة، لإنتاج أبرك الثمرات، ذلك أن من علوم النقد ما تم نضجه، فلم يعد في حاجة لغير تنظيمه، حتى يصبح الانتفاع به ميسورا كعلم النحو، والصرف، والعروض، والقافية، ومنها ما لم ينضج بعد، بل هو في حاجة إلى معاودة النظرة، لتخليصه مما علق به مما ليس منه، ولتصحيح أخطاء مضى عليها الزمن، حتى استقرت صحتها في