للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتتفاعل صورة الناس، وصورة الجبال، مع جوّ الأعمال الموزونة، فالناس بأحجامهم وأثقالهم، كالفراش انتشارا وخفة، والجبال الراسية الثقيلة، منفوشة كالصوف، فليس في هذا المشهد المرسوم قيمة إلا للأعمال الموزونة، التي تحدّد مصائر البشر، فهي التي تبرز في المشهد، وتركّز عليها أضواء التصوير.

ويركّز التصوير القرآني على قصر الحياة الدنيا، إذا قيست بالآخرة وأهوالها. والتركيز على الزمن المحدود للدنيا، والتأكيد على قصره، يحقّق الغرض الديني من التصوير والتأثير.

يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ... يونس: ٤٥.

وتتلاحق الصور القرآنية، في رسم مشاهد الحشر، بعد رسم المشاهد الكونية الهائلة، فترسم ملامح الوجوه في ذلك اليوم.

فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه، من شدة الكرب والهمّ فتبدو الدنيا، ومدة حياتهم فيها ضئيلة زمانا ومكانا. ويتضاءل كلّ ما فيها من ملذات ومتاع، فتبدو قليلة القيمة، والاعتبار، قصيرة المدة، من شدة الأهوال التي يرونها. قال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً، يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً طه: ١٠٢ - ١٠٤.

فمشهد حشر الناس مكشوف، والحقائق صارت مكشوفة أيضا واضحة للعيان، كما أن الكون أصبح مكشوفا، فلا غطاء في السماء، ولا التواء في الأرض، حين ذاك، يخيّم الهول والرعب على الناس، ويظهر ذلك في حديثهم الخافت، وكلامهم الهامس، وأبصارهم الخاشعة، وحركتهم المضطربة.

يقول تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً طه: ١٠٨.

وقوله أيضا: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً طه: ١١١.

وقوله أيضا: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ المعارج: ٤٣.

ففي المحشر، يعود البشر فرادى، بلا أنساب، ولا أحساب، كما خلقهم الله أول مرة فرادى، يقول تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً،

<<  <   >  >>