للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي ذكر التراب إيحاء بخلق الإنسان من العدم، وأيضا بنهايته إلى التراب.

ولو فكر الإنسان بخلقه من العدم، ثم ما مرّ به من أطوار في خلقه وتكوينه قبل أن يصبح رجلا سويا ما أنكر قدرة الله على بعثه من جديد.

وفي قضية عيسى عليه السّلام يعتمد القرآن أيضا على القياس التمثيلي.

قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ... آل عمران: ٥٩.

فالصورة تخاطب عقل الإنسان ببداهة ويسر، دون اللجوء إلى الأساليب الفلسفية الجامدة فتجعل خلق عيسى كخلق آدم، كلاهما معجز، بل إنّ خلق آدم أكثر استغرابا ومع ذلك لم تثر حول خلقه الشبهات، ولم يقل أحد بألوهيته.

ويتضح من هذه المقايسة أو الموازنة أن الإعجاز في الخلق واحد، في آدم وعيسى وسائر البشر، فالله يخلق كيف يشاء بدون أب ولا أم كآدم، ومن أم بلا أب كعيسى، وخلق الناس من أب وأم كما هو معروف عندهم.

وقد تستمد مادة المقايسة من واقع المشركين، فيضرب المثل عليها ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم: ٢٨.

فهم لا يسوّون عبيدهم بأنفسهم في أملاكهم، والقياس العقلي يقتضى أيضا ألا يرتضوا لربهم شريكا في ملكه.

فهم متناقضون في تصورهم للأمور، ينسبون لله الشركاء، وهم يأنفون من الشركاء في أملاكهم.

فالصورة تعقد المشابهة بين واقعهم الرافض لمساواة العبيد لهم في أملاكهم، وبين اتخاذهم مع الله شركاء، فيتضح في القياس التمثيلي فساد تصورهم وتناقضهم.

كما تعتمد الصورة على (قياس المساواة) «١٦» في إثبات قضية البعث.

فإعادة الخلق بعد الموت تقاس على بداية الخلق من العدم كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الأعراف: ٢٩، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الأنبياء: ١٠٤.

كما تعتمد الصورة في إثبات هذه القضية على مشاهد من الطبيعة، وحركة إنبات


(١٦) مناهج الجدل: ٢٨

<<  <   >  >>