٣. التصحيح والتحسين: فإذا وقفت -مثلاً- على راوٍ أخرج له البخاري في صحيحه، ولم أقف على جرحٍ في هذا الراوي ولا تعديل، إلا أن البخاري أخرج له في صحيحه، فحكم هذا الراوي أنه ثقة؛ لأن أحد شروط الحديث الصحيح: أن يكون رواته عدولاً ضابطين. ويُحتمل أن يكون هذا الراوي ممن أخرج له البخاري في الشواهد والمتابعات، لكن حتى من أخرج له البخاري في الشواهد والمتابعات -على الصحيح- أنه لا ينزل عن مرتبة القبول عند من صحح له. ثم إن الذين أخرج لهم البخاري في المتابعات والشواهد قلة، والأصل أن يخرِّج للراوي استقلالاً. وكذلك من أخرج له الإمام مسلم فهو ثقة. وقد تكلم عن هذه القضية الإمام الذهبي في كتابه (الموقظة) ، وقسّم العلماء إلى ثلاث طبقات على حسب تشددهم وتساهلهم، فقال: من لم يُوثّق ولم يُجرح، وأخرج له البخاري ومسلم، فهو ثقة لا شك فيه، ومن صحح له الترمذي وابن خزيمة فحديثه: جيّد، ومن صحح له الدارقطني أو الحاكم فأقل أحواله حُسن حديثه. هذا كله فيمن لم يُجرح ولم يُعدّل، لكن هل تنحصر فائدة التصحيح السابق فيمن لم يجرح ولم يعدل فقط؟ الجواب: لا، يمكن أن يستفاد من ذلك أيضاً بضوابطٍ ليس هذا محل ذكرها.
وهناك أمرٌ يجعلنا نحتج بالتصحيح والتحسين مع وجود ما يخالفهما من العبارات الصريحة، وذلك في مثل ما لو صرّح الإمام أنه يُصحِّحُ الإسناد، فلو قال: هذا إسناد صحيح، فالأصل فيه أنه يقصد: أن هذا الإسناد تحققت فيه شروط الصحة، وأنه لم يصححه بالمتابعات والشواهد، وإنما صححه لاجتماع شروط الصحة فيه؛ لأن الوصف أصبح للإسناد، لا للحديث بمجمله حتى نقول بالمتابعات والشواهد. فإذا صُحح الإسناد -وهذا كثيراً ما يفعله الحاكم- فيمكن أن يحتج بذلك على توثيق رواة ذلك الإسناد، ويُعتبر أن الحاكم يوثقهم، وإن كان غيره يضعفهم، فتُعَدُّ هذه المسألة من مسائل تعارض الجرح والتعديل حينها.