للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذا غدا الطَيبُ في مفارقهم ... راحوا كأنهُم مرضى من الكَرَمِ

فحقَّت الظِّنَّة، وصدقت المَخِيلَة.

ومن الغد كان الانصراف، فَشيَّعَ وأبعد، وتألم للمفارقة وتوجع، كثَّرَ الله مِثْلَه، وكافأ قوله وفعله، وأورث عز تلك البقعة عَقِبَه.

ولم أبرح يوم زيارة محل وفاة السلطان أمير المسلمين أن قلت:

يا حُسْنَها من أربع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرارِ

وجبال عز لا تَذِلُّ أنوفُها ... إلا لعز الواحد القهار

ومقر توحيد وأسُّ خلافة ... آثارها تُنبي عن الأخبار

ما كنت أحسب أن أنهار الندى ... تجري بها في جملة الأنهار

ما كنت أحسب أن أنوار الحجى ... تلتاح في قُنَنٍ وفي أحجار

مَحَّت جوانبها البُرودُ وإن تكن ... شَبَّت بها الأعداء جّذْوةَ نار

هَدَّتْ بِناها في سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عُقار

لما توعدها على المجد العِدَا ... رضيت بعَيْثِ النار لا بالعار

عَمَرت بِحلَة عامر وأعزها ... عبد العزيز بمرهف بتار

فرسا رِهان أحرزا قَصْبَ الندى ... والبأسَ في طَلَقٍ وفي مضمار

ورثا عن النَّدْب الكريم أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار

وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في وَرَقٍ وفي إثمار

أزرت وجوه الصِّيدِ من هنتاتة ... في جوها بمطالع الأقمار

لله أي قبيلة تركت لها النُظَ ... راء دعوى الفخر يوم فخار

نصرتْ أمير المسلمين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار

آوت عندما ذهب الرَّدَى ... والرَّوْعُ بالأسماع والأبصار

وتخاذل الجيش اللُّهام وأصبح ال ... أبطال بين تقاعد وفرار

كُفِرت صنائعُه فيمّمَ دارها ... مستظهراً منها بعز جوار

وأقام بين ظهورها لا يتقى ... وقع الرَّدَى وقد ارتمى بشَرار

فكأنها الأنصار لما آنست ... فيما تقدم غربة المختار

لما غدا لحظاً وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار

حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلاً لأمر الباري

لو كان يُمنَع من قضاء الله ما ... خَلَصَت إليه نوافذ الأقدار

قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ... أوْلَوْه لولا قاطع الأعمار

ما كان يقنعه لو امتد المدى ... إلا القيامُ بحقها من دار

فيعيد ذاك الماءَ ذائب فضة ... ويعيد ذاك التُّرب ذَوْبَ نُضَار

حتى تفوز على النوى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار

حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر الرعاية ساطع الأنوار

ويسوّغ الأمل القصيّ كِرَامها ... من غير ما ثُنْيا ولا استقصار

ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجى ... عن درهم فيه ولا دينار

أو أن يُتوَّجَ أو يُقلَّدَ هَامُها ... ونحورها بأهله ودراري

حقٌ على المولى ابنِهِ إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثارِ

فلمثلها ذُخِرَ الجزاء ومثلُه ... مَنْ لا يُضيع صنائع الأحرار

وهو الذي يقضي الديون ومثله ... يرضيه في علن وفي أسرار

حتى تحُجَّ محلّةٌ رفعوا بها ... علم الوفاء لأعين النظار

فيصير منها البيتُ بيتاً ثانياً ... للطائفين إليه أي بدار

تُغني قلوب القوم عن هَدْيٍ به ... ودموعُهم تكفي لرمي جمار

حُييتِ من دار تكفَّل سعيها ال ... محمود بالزُّلفى وعقبى الدار

وضفت عليك من الإله عناية ... ما كرَّ ليل فيك إثر نهار

فلا تسل عن حسن موقعه لديه، وسرور نفسه به. وفي الحين طير به إلى أخيه كبيره وهو على سموِّ قدره وعلوِّ ذروته، أشد الناس إيجاباً لحقه، وانخفاضاً لبأوه، وتطامنا بمجلسه، يقرضه وزان الأب في إلانَةِ القول، وانكسار الطرف تتميماً لوظائف المجد، وإقامة لسوق الحرية. فأورى عند لقائنا إياه زنده، وعَقَّب الصلة الجزيلة عذره، وبلغ قصبات السبق فضله.

<<  <   >  >>