خطبتُ عُلاكَ قبل اليومِ وُدّاً ... بذلتُ من الوفاء له صَداقا
وأوعدتُ الزمانَ بك انتصاراً ... وأرغمت الخطوبَ بك اعتلاقا
فسامحني فَعُذْرِي غيرُ خافٍ ... إذا ما العُذْرُ في التقصير ضاقا
شكوتُ لك التَّغَرُّبَ قبل هذا ... وهأنا بعده أشكو الفراقا
فلولا ما تَوالَى من حديثٍ ... بعزك لم أكنْ مِمَّنْ أفاقا
فقَرِّرْ حالتي من غير لُبْثٍ ... هناءً واحتراماً وانطلاقا
ركبتَ الدَّهرَ منقاداً ذَلولاً ... بحرمةِ مصطفى رَكِبَ البُراقا
وتلطفت إلى سلطانه في طلب جارية من بنات الروم ممن اشتمل عليهن قصره بقولي:
قصدتُ إلى المولى أبي عمر الرضا ... غدت بالذي يَرْضى المشيئةُ جاريه
وطوفانُ هَمِّي قد طَغَى لِيُجِيرَنِي ... وتُركبَنِي آلاؤه فوق جاريه
وإني لراضٍ بالذي يَرْتَضِيه لي ... ولو عَبَدَتْ آباؤها شَنْتَ ماريه
وإن ظنوني في الإمامِ وفضله ... محققةٌ والله لا متمازيه
ففاز بما يهواهُ من فضل ربِّه ... وأمُّ الذي يَهْوَى له الشرَّ هاويه
فلم يدع غاية فضل إلا بلغها، ولا ثَنِيَّةَ وفاءٍ إلا طلعها، فنوه في الملأ المشهود الجلسة، وخصني بالإفراد مع أميره والخَلْوَة، واقتضى منه ملوكّي الخلعة ووافر العطية، وجدد الصكوك وضاعف العناية، وألحق الولد، والقرابة وحَرَّر من المغارم الغلة، جزاه الله أفضل الجزاء وأعانه على ما يرضيه - وكان من الأمر ما يذكر إن شاء الله.
رَجْعُ التاريخ
عبور السّلطان محمد الخامس المخلوع إلى الأندلس
وحث السلطان أبو عبد الله بن نصر الموجه إلى الأندلس ركابه إلى سبتة لا يُصدق بالإفلات ولا يثق بالنجاة، فعارت له خيلُ ونفقت حُموله لشدة السَّيْر، واستقر بسَبتة واستعجل الجواز وحلَّ بجبل الفتح بعد مراوضة كبيرة لقواد الأسطول الرومي ومحاورة، إذ تبرعوا بإِجازته ولم يسمحوا في خلاف ذلك ليجلبوا الفخر لسلطانهم وينسبوا الحركة إليه، فأعملت الحيلةُ ولُفقت الحُجة، وقطع السلطان ألسِنَتَهُم بمال بذله مُكارمة لهم، وأركب أجفانَهم طائفة من كبار قرابته، واستقرَّ بجبل الفتح وطال به مقامه تتردد الرسل بينه وبين ملك الروم، ثم ارتحل نحوه في لُمَّةٍ من مماليكه ووجوه قرابته، وتحفَّى السلطانُ بمقدمه، وبالغ في بِرِّه، وأفرط في التَّنزل لوجهته، وأبعد المَدى في خُطا تلقيه، وأَرْجَل الأكابر لأداء حقه، وتوسع في نُزُله، وعمَّ بالملاحظة جميع مَنْ في صُحْبَتِه، وأعطاه صفقة يمينه بالمظاهرة والمعاضدة والتهالك من دون بغيته، وسلفه ثلاثين ألف دينار من الذهب العين بنفقته، وشرط له أن لا يبتزَّه حصناً ولا ينقصه فتحاً، ولا يعلق به طماعية، وأنه يصل معه السلم مدة حياته، ويتركه وصيةً في عَقِبه. وانصرف مجبوراً قريرَ العين، منشرحَ الصدر، فلحق بسائر الجيش المريني ومن تخلف عنه من قومه بظاهر رُنْدَه، وارتحل إلى أحواز أنْتِقَيْرَة في جُوَيْشٍ من المسلمين وطاع له حصن أنكَيرة من الحصون المنسوبة إلى مالقة، نزع إليه قائده فجعل به حصة من الخيل وثَقِفَه. وبيناهُ يرتقب إنجاز وعد ملك الروم ولحاق جيش مظاهرته له، إذ يجيء النبأ المشنوء، من الفتك بالسلطان أبي سالم، ملك المغرب مٌعينِه ورائشِ جناحه، والكادح له، وقد تطاولت الأعناق لمقدمه واهتزت الأندلس لوجهته، وترددت المخاطبات بينه وبين من يرجو القيام بدعوته. وكان قد بذل المجهود في طلب استصحابي، وتواترت مخاطبتُه إياي على عادة اعتداده وسَنَن فضله، فآثرت ما أنا بسبيله من الراحة، والفرار عن هفوات الغِيَر والانكماش عن الخدمة وأقنعته بالوعد من تَوجُهي إليه بولده عند تصير الأمر إليه. والنيابة في اقتضاء جميل سراحه من باب السلطان، وخطة كرامةٍ طريفة له، وإكناف رواق الستر على من تصحَبُهُ من حرمته، وترتيب القدوم عليه به، وتقرير حال لقائه إياهُ، في آمال عديدةٍ أخذها الترتيب وزيَّنها البيان والخطابة، ثم محاولة الانصراف عنه إلى بيت الله من غير تَلَبُّسٍ بخدمة، ولا غمسِ يدٍ في فرث خُطة، ولا مغير للنَسْكِ من هيئة ولا لبسة. فقنع بذلك وراكنني إليه واستدعى المشورة فيما يَعِنُّ له، فرسمت من ذلك ما قُدِّرَ غناؤه، وتُوُهِّمت الحاجة إليه.