وأُطْفِي في تلك المواردِ غُلَّتِي ... وأُحْسِبَ قرباً مهجةً شَكَتِ البُعدا
بمولدك اهتز الوجودُ فأشرقت ... قصورٌ بِبُصْرَى ضاءت الهُضْبَ والوَهْدَ
وَمِنْ رُعْبِ الأوثانُ خَرَّت مهابةً ... ومن هوله إيوانُ فارسَ قد هُدَّا
وغاضَ له الوادي وصبّح عزّه ... بيوتاً لنار الفرس أعدمها الوَقْدّا
رعى الله منها ليلةً أطلع الهدى ... على الأرض من آفاقها القمرَ السّعدا
وأقرض ملكاً قام فينا بحقّها ... لقد أحرز الفخرَ المُؤَثَّلَ والمجدا
وَحيَّا على شط الخليج محلةً ... يُحالف من يُلفى بها العيشةَ الرغدا
وجاد الغَمَام العَدُّ فيها خلائفاً ... مآثرهم لا تعرف الحصر والعَدَّا
عليٌ وعثمانٌ ويعقوبُ لا عَدَا ... رضا الله ذاك النجلَ والأبَ والجَدا
حَمَوْا وهُمُ في حومة البأْسِ والندى ... فكانوا الغيوثَ المستهلةَ والأُسدا
ولله ماذا خلَّفوا من خليفة ... حوى الإِرثَ عنهم والوصيةَ والعهدا
وقام بأمر الله يحمي حمى الهُدى ... فيكفي من استكفى ويعدي من استعدا
إذا ما أراد الصعبَ أغرى بِنَيْلِهِ ... صُدُورَ العوالي والمُطَهَّهَةَ الجُردا
وكم معتدٍ أردى الإله وكم تائه هَدَى ... وكم حكمةٍ أضفى وكم نعمةٍ أبدى
أبا سالمٍ دينُ الإله بك اعتلى ... أبا سالم ظِلُّ الأمان بك امتدا
فَدُمْ من دفاع الله تحت وقايةٍ ... كفاك بها أن تسحب الحَلَقَ السَّرْدَا
ودونكها مِنّي نتيجةَ فكرةٍ ... إذا استرشحت للنظم كانت صَفاً صلدا
ولو تَرَكَتْ منِّي الليالي صُبَابَةً ... لأجهدتُها ركْضاً وأرهقتُها شدا
ولكنها جَهْدُ المُقِلِّ بذلتُهُ ... وقد أوضح الأعذارَ مَنْ بذل الجَهْدَا
رَجْعُ التاريخ
[ذكر أسماء بعض القادة الفارين من غرناطة إلى المغرب]
وفي شهر ربيع الأول من عام اثنين وستين وسبعمائة لحق بالباب السلطاني يحيى بن عمر بن رحُّو النازع إلى إيالة الطاغية حذراً على نفسه، الشهير المحلة الثَّبْت الموقف، بقية رجال بيته حنكة واضطلاعاً ورجاحة ومعرفة باللسان الزناتي وأنساب القبيل المريني، بعد أَن اقتضى من عهد السلطان المستعين بالله أمير المسلمين، ما طابت به نفسه، وانصرف عن مستقره بأرض الروم عن مراضات، فأجمل السلطان - أيده الله - تلقيه، ونوَّه به، ورفع مجلسه، وأدنى جواره، واستدعى في المهمات رأيه، وقد لبس طور الاختصار، وتبرأ من الأتباع واختلط بالغُمار، وأصيب بإحدى عينيه، فهو يحمل فوقها قطعة من رقيق الأديم الداجي، يمسك أعلاها في عمامته وحسبك بها شَيْناً، انتفع به لاتهامه الغَضَّ من الترشيح، وغمزِه من ذيل الأبَّهة المرْدية. وتَفَوَّقَ أتباعُه وأهل بيته، فآثر ولده عثمان بن يحيى، الحمى الأنف لنفسه مزية الفضل بكثير من الخَصْل من خط وفروسيةٍ ووقار، فأقام مظاهراً سلطان الروم في حروب له على أهل ملته. وفرَّ من أهل بيته، إلى غرناطة جُملةٌ كأخيه العباس بن عمر، وجملةٌ من بني عمه كانوا وافِدَ البَراجِم على عدو الله المُنْتَزى بها، فأكْبلهم للحين، وأنْزَلَهُم بعض الأساطيل، فغَرَبَهم إلى بُجاية بعد أن استوثق من كان له فتية أو كفلاء بالرجوع على ذلك لأوَّل تَعرُّفِ تغريبهم. فاستقبلوا البيت الحرام قَسْراً تذودهم عصاه، وتأخذ أعقابَهم نقمته من غير قصد ولا نِيّة، هاضَ بذلك جناح عميدهم، وأَعْدَمَ ملك المغرب مكان الاستظهار بهم، وشمر لأول دولة الغدر عن ساعده في إحكام الهدنة وإفساد ما بين السلطان الذي جرَّ عليه النكبة، وبين سلطان الروم أيام استمساكه بوادي آش. فاتصل له سبب الحظوة وساء ظنه فأعمل الامتناع بباب ملك قشتالة، وقد توجه في شأن الخدمة بعد أن استخلص صامت ماله ونبيه سلاحه وخطير ذخيرته، فولى من القبول حظوة مثله.