للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس ينبغي أن يعترض عليهم في أقاويلهم إلا من تزاحم رتبته في حسن تأليف الكلام وإبداع النظام رتبتهم. فإنما يكون مقدار فضل التأليف على قدر فضل الطبع والمعرفة بالكلام. وليس كل من يدعي المعرفة باللسان عارفا به في الحقيقة. فإن العارف بالأعراض اللاحقة للكلام التي ليست مقصودة فيه من حيث يحتاج إلى تحسين مسموعه أو مفهومه ليس له معرفة بالكلام على الحقيقة البتة وإنما يعرفه العلماء بكل ما هو مقصود فيه من جهة لفظ أو معنى. وهؤلاء هم البلغاء الذين أصلوه.

فمن جعل ذلك هدي سبيله, ومن اعتمده أحمده.

د- معرف دال على طرق المعرفة بما يوضع من المعاني وضع غيره من حيث تكون واجبة أو ممكنة أو ممتنعة, وما لا يجوز أن يوضع وضع غيره من ذلك.

أما طرق الجد وما لم يقصد المتكلم به مشاجرة ولا مغالبة فلا يوضع فيها واجب وضع ممتنع, ولا الممتنع وضع الواجب, ولا ممكن وضع ممتنع, ولا واجب وضع ممكن, وإنما يوضع الممكن وضع الواجب, ويجوز أن يوضع الممتنع وضع الجائز إذا كان المقصود بذلك ضربا من المبالغة.

١- إضاءة: فأما طرق الهزل وما يقصد به الإضحاك أو التهكم فإن المعنى قد يوضع في ما وضع جميع ما يخالفه من الجهات المذكورة. وكذلك في الأقاويل التي يقصد بها المشاجرة والمكابرة لأن مواطن الهزل والضجرة تحتمل من قلة المبالاة بحقائق الكلام ما لا تحتمله مواطن الجد والاعتدال.

٢- تنوير: ولا يجوز وضع شيء من الواجبات أو الممكنات وضع المستحيل, ولا أن يوضع المستحيل وضع شيء من ذلك في موطن جد ولا في موطن هزل ولا في حال اعتدال ولا تحرج. وقد تقدم أن الفرق بين الممتنع والمستحيل هو أن المستحيل لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم مثل كون الشيء أسود أبيض وطالعا نازلا في حال واحدة. والممتنع هو ما يمكن تصوره في الوهم وإن لم يمكن وجوده مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء نوع من الحيوان على جسد نوع آخر.

٣- إضاءة: وقد تكلم الخفاجي في هذا, وأغفل التفرقة بين الأقاويل التي ترد على الأنحاء المتقدمة من جهة ما تقع فيه من المواطن والأحوال, وبين ما يسوغ من ذلك في حال دون حال وموطن دون آخر, وتكلم في ما يسوغ في جميع ذلك ويجوز من جهة ما ينحى بالأقاويل نحوه من مبالغة أو اقتصاد. فأجاز أن يوضع الممتنع وضع الجائز إذا كان في ذلك ضرب من الغلو والمبالغة وهو كما قال, ومنع أن يوضع الجائز وضع الممتنع على كل حال. والصحيح أن ذلك يقع حيث تقصد المبالغة. وربما وضع الجائز وضع الممتنع حيث تقل دواعي الإمكان في جوازه ويكون القصد بذلك ضربا من المبالغة.

٤- تنوير: فأما إذا لم تقصد مبالغة ولا مغالبة فلا يوضع جائز وضع ممتنع ولا ممتنع وضع جائز. ومن أمثلة ذلك فيما لم تقصد فيه مبالغة قول بعضهم: (الطويل -ق- المتدارك)

فإن صورة راقتك فاخبر فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر

فبنى على أن مرارة العود أكثر ما تكون عن اليبوسة وأنها في الأخضر على سبيل القلة, والأمر بخلاف ذلك لأن وجود المرارة مع الخضرة هو الأكثر, فكأنه وضع الواجب في الأكثر موضع الجائز في الأقل. وهذا غلط مستقبح في المعاني مؤد إلى انعكاس حقائق المقاصد, فليتحفظ من مثله, فإنه خارج عن جملة ما استسغناه بحسب المواطن والأحوال والمطامح الإفراطية التي من شأن الشعراء أن ينحرفوا بالمعاني التي وقع فيها وبحسبها عن الحقائق التي يجب في نسبها وفي انتساب بعض مفهوماتها على بعض انحرفا ما لضروب من المقاصد ليس منها موجودا في هذا البيت.

هـ- معلم دال على طرق العلم بالوجوه التي بها يقع التدافع بين بعض المعاني وبعض.

<<  <   >  >>