للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢- تنوير: والنقد الذي أشار إليه سيف الدولة في بيتي المتنبي وبيتي امرئ القيس هو أن صدر البيت الأول من قول امرئ القيس يقضي ظاهر الكلام أن يوصل بعجز البيت الثاني ويوصل صدر البيت الثاني بعجز الأول, وكذلك يظهر في باديء الرأي أن صدر البيت الأول من قول المتنبي يصلح أن يتمم بعجز البيت الثاني ويتمم صدر الثاني بعجز الأول. فيقال في قول امرئ القيس:

كأني لم اركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ويقال في قول أبي الطيب:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

٣- إضاءة: وقد احتج أبو الطيب لامرئ القيس بما أوردناه وبقي أن نبين وجه الحجة في قول أبي الطيب. فنقول: إن أبا الطيب أراد أن يقرن بين أن الردى لا نجاة منه لواقف وبين أن الممدوح وقف ونجا منه, وبين أن الأبطال ريعت وانهزمت وأن سيف الدولة لم يرع ولم ينهزم, وابتسام الثغر وانبلاج الوجه مما يدل على عدم الروع.

٤- تنوير: وإنما قال: "كأنك في جفن الردى وهو نائم" لأنه جعل الردى في هذا الموضع بصورة الناظر المبصر الذي لا يعيب عنه شيء ولا يخفى عليه مقتلو ولأن السبل إلى المهج واضحة له. فلما نجا الممدوح تعجب في سلامته منه وخفائه عنه مع كونه بالموضع الذي يبصر فيه, فقدر سببا لخفائه عنه النوم الشاغل للأجفان عن رؤية ما دنا منها.

وقد يكون عدم التمكن في المعاني من أنحاء أخر قد ذكرت في مواضعها من هذا الكتاب. وإنما نبهت بهذا المعلم على هذا الضرب الواقع في المعاني التي يوضع بعضها بإزاء بعض لنسب تقتضي ذكر المعنى مع ما يناسبه وإيقاعه على جانب ما يليق به.

ح- معرف دال على طرق المعرفة بما يكون من المعاني أصيلا في بابي المدح والذم, وما ليس منها أصيلا في ذلك.

لما كان الإنسان في جميع ما يحاوله ويسعى نحوه إنما يلتمس حظوظا يكون فيها صلاح لنفسه أو حظوظا فيها صلاح لبدنه, وكان استقصاء الإنسان مصالح نفسه وابتغاؤه لها من كل وجه لا يصل منه على غيره مضرة ولا ظلم, وكان استقصاؤه حظوظ بدنه وطلبه لها من كل وجه يؤدي إلى ضرر غيره وظلمه -والظلم قبيح فما أدى إليه قبيح- وجب لذلك أن يكون الفضل في القناعة من حظوظ البدن بما لا يؤدي على مزاحمة ذي استحقاق وفي الرغبة في جميع حظوظ النفس.

وحظوظ النفس هي التي يكون لها خيرات وكمالات بالنظر على نعيمها الباقي, وحظوظ البدن هي التي تكون لها خيرات وكمالات بالنظر على نعيمها الفاني, فالفاضل من آثر نعيم نفسه الباقي على نعيم بدنه الفاني, ومن أنصف غيره من ذوي الاستحقاق فيما فيه نعيم بدنه الفاني أو آثره بذلك على نفسه. والإيثار أفضل ليعتاض بذلك ما يكون له سببا على النعيم الباقي كالأجر أو ما يتنزل في توهمه منزلة النعيم الباقي كالذكر الجميل.

<<  <   >  >>