للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

١- إضاءة: ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس. فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضع قصدا هزليا أو استخفافيا وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد. وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض يليق به ولا تتعداه فيه إلى غيره.

وهذا الذي ذكرته في تخييل الأغراض بالأوزان قد نبه عليه ابن سينا في غير موضع من كتبه، من ذلك قوله في الشفاء، وتعديد الأمور التي تجعل القول مخيلا: (والأمور التي تجعل القول مخيلا: منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن، ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول، ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول، ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم) .

٢- تنوير: والأجزاء التي تأتلف منها مقادير الأوزان: منها ما يتناسب نحو فاعلن وفاعلاتن وفعولن ومفاعيلن، ومنها ما تناسبه على الضد من هذا نحو مستفعلن فاعلن. ألا ترى أن هذين الجزأين يتساوقا من أول خماسي وثاني سبب من السباعي. وكذلك الأجزاء الأول تتساوق الخماسيات والسباعيات منها ما عدا السبب الآخر من السباعيات فإنه يفضل عن ذلك. ومن الأجزاء ما يتدافع ويتخالف نحو مفاعلين مستفعلن.

فالتأليف من المتناسبات له حلاوة في المسموع، وما ائتلف من غير المتناسبات والمتماثلات فغير مستحلى ولا مستطاب. ويجب أن يقال في ما ائتلف على ذلك النحو شعر، وإن كان له نظام محفوظ لأنا نشترط في نظام الشعر أن يكون مستطابا. وما ائتلف من أجزاء تكثر فيها السواكن فإن فيه كزازة وتوعرا. وما ائتلف من أجزاء تكثر فيها المتحركات فإن فيه لدونة وسباطة. والكثير السواكن إذا حذف بعض سواكنه ولم يبلغ ذلك الحذف الإجحاف به اعتل. وهم يقصدون أبدا أن تكون السواكن حائمة حول ثلث مجموع المتحركات والسواكن إما بزيادة قليلة أو نقص ولأن تكون أقل من الثلث أشد ملائمة من أن تكون فوقه.

٣- إضاءة: وما كان متشافع أجزاء الشطر من غير أن يكون متماثل جميعها فهو أكمل الأوزان مناسبة. وما كان متشافع بعض أجزاء الشطر تال له في المناسبة، وما لم يقع في شطره تشافع أدناها درجة في التناسب. وما وقع التشافع والتماثل في جميعه استثقل ولم يستحل أيضاً للتكرار.

فبحسب تضاعف التشافع في الشطر أو اتحاده أو عدمه، وبحسب اتحاد الجنس في جميع أجزائه أو تنوعه، وبحسب قوة المشاكلة والمناسبة بين جزء وجزء وضعفها، وبحسب ما تكون عليه الأجزاء من كزازة أو سباطة أو اعتدال، وبحسب ما يكون عليه مظان الاعتمادات وما تنتهي إليه مقادير الأوزان، تكتسب الأوزان أوصافا من المتانة والجزالة والحلاوة واللين والطلاوة والخشونة والرصانة والطيش وغير ذلك.

٤- تنوير: ومن تتبع كلام الشعراء في جميع الأعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها من الأوزان. ووجد الافتنان في بعضها أعم من بعض. فأعلاها درجة في ذلك الطويل والبسيط. ويتلوهما الوافر والكامل. ومجال الشاعر في الكامل أفسح منه في غيره. ويتلو الوافر والكامل عند بعض الناس الخفيف. فأما المديد والرمل ففيهما لين وضع، وقلما وقع كلام فيهما قوي إلا للعرب وكلامهم مع ذلك في غيرهما أقوى. وقد نبه على هذا في المديد أبو الفضل ابن العميد. فأما المنسرح ففي اطراد الكلام عليه بعض اضطراب وتقلقل، وإن كان الكلام فيه جزلا. فأما السريع والرجز ففيهما كزازة. فأما المتقارب فالكلام فيه حسن الاطراد إلا أنه من الأعاريض الساذجة المتكررة الأجزاء. وإنما تستحلى الأعاريض بوقوع التركيب المتلائم فيها. فأما الهزج ففيه مع سذاجته حدة زائدة. فأما المجتث والمقتضب فالحلاوة فيهما قليلة على طيش فيهما. فأما المضارع ففيه كل قبيحة. ولا ينبغي أن يعد من أوزان العرب، وإنما وضع قياسا، وهو قياس فاسد لأنه من الوضع المتنافر على ما تقدم.

<<  <   >  >>