للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولله سيري ما أقل تئية ... عشية شرقي الحد إلى غرب

فكان هذا الاستفتاح مناسبا للبيتين المتقدمين من جهة التعجب وذكر الرحيل، ثم بين حاله وحال من ودعه عند الوداع.

٦- تنوير: ثم استفتح الفصل الثالث بتذكر العهود السارة وتعديدها فقال:

وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب

فكان هذا مناسبا لمفتتح الفصل الثاني في أنه تذكر فيه موطن البين فتلا ذلك بتذكر موطن الوصل والقرب في صدر هذا الفصل الثالث، ثم تمم هذا الفصل بذكر ما اقترن بذلك الوصل من محاذرة الرقبة.

٧- إضاءة: ثم استفتح الفصل الرابع بتذكر الحال التي حاذر فيها الرقبة عند رحيله عن سيف الدولة، فشبه اليوم الذي كان فيه ذلك بليل العاشقين في الطول وفي أنهم يحذرون فيه الرقبة فقال:

ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب

ثم اطرد كلامه في هذا الفصل في وصف الفرس وانتقل فيه من معان جزئية إلى معان كلية يمكن معها أن يعتقد في الكلام انه فصل واحد، وأن يعتقد أنه فصلان ويكون رأس الفصل الثاني قوله:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب

٨- تنوير: ثم استفتح الفصل الخامس أو السادس على الاعتبار الثاني بذم الدنيا وما تؤول إليه أحوالها وتعقب به صروفها من مثل ما قدم من ذكر الفراق والبعاد والهجر ومكابدة الأعداء، وتوجع مما يصيب كل بعيد الهم فيها فقال:

لحى الله ذي الدنيا مناخا لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب

فاطرد له الكلام في جميع ذلك أحسن اطراد، وانتقل في جميع ذلك من الشيء إلى ما يناسبه وإلى ما هو منه بسبب ويجمعه وإياه غرض. فكان الكلام بذلك مرتبا أحسن ترتيب ومفصلا أحسن تفصيل وموضوعا بعضه من بعض أحكم وضع.

فعلى هذا النحو يجب أن تكون المآخذ في استفتاحات الفصول ووضع بعضها من بعض. وهذا الفن من الصناعة ركن عظيم من أركان الصناعة النظمية لا يسمو إليه إلا من قويت مادته وفاق طبعه. وقد أرشدناه إلى السبيل المؤدية إلى حسن التصرف في ذلك. فمن ائتم بما رسمته في ذلك لم يضل إن شاء الله.

[د- مأم من المذاهب المستشرفة مما تقدم أيضا، وهو مذهب التحجيل.]

وإذا ذيلت أواخر الفصول بالأبيات الحكمية والاستدلالية واتضحت شيات المعاني التي بهذه الصفة على أعقابها - فكان لها ذلك بمنزلة التحجيل - زادت الفصول بذلك بهاء وحسنا ووقعت من النفوس أحسن موقع.

١- إضاءة: ولا يخلو المعنى الذي يقصد تحلية الفصل به وتحجيله من أن يكون متراميا إلى ما ترامت إليه جملة معاني الفصل إن كان مغزاها واحد أو يكون متراميا إلى ما ترامى إليه بعضها، فيورد على جهة الاستدلال على ما قبله أو على جهة التمثيل. ويكون منحوا به منحى التصديق أو الإقناع، مقصودا به إعطاء حكم كلي في بعض ما تكون عليه مجاري الأمور التي للأغراض الإنسانية علقة بها مما انصرفت إليه مقاصد الفصل ونحي بها نحوه. فيكون في ورود البيت الأخير الذي يتضمن حكما أو استلالا على حكم، إثر المعاني التي لأجلها بين ذلك الحكم أو الاستدلال عليه، إنجاد للمعاني الأول وإعانة لها على ما يراد من تأثر النفوس لمقتضاها. فكان ذلك من أحسن ما يعتمد في الفصول وأزينه لها.

٢- تنوير: وهذا الفن من صناعة النظم شريف جدا. وينبغي أن يكون اللفظ والتركيب فيه سهلا جزلا، وأن تورد القافية فيه متمكنة. وإن كانت مراعاة هذه الأشياء واجبة في غير ذلك من أبيات الشعر فإنها في هذه الأبيات التي تجعل اختتامات للفصول ونصولا على عواملها أوجب.

٣- إضاءة: وممن سبق إلى وضع هذه المعاني المذهوب بها مذهب الحكمة والتمثل في نهايات الفصول ومقاطع القول فيها وسبك القول فيها أحسن سبك زهير، نحو ما تمثل به في آخر مذهبته: (الطويل -ق- المتدارك)

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

ونحو ما ختم به آخر فصل من قصيدته اللامية، وذلك قوله: (الطويل -ق- المترادف)

فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل

ثم جاء أبو الطيب المتنبي فيا لمولدين فولع بهذا الفن من الصنعة وأخذ خاطره به حتى برز في ذلك وجلى وصار كلامه في ذلك منتميا إلى الطراز الأعلى.

<<  <   >  >>