للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم: "فلم تخل فيما بدأتني به من مجد تأثلته, أو شكر تعجلته, أو أجر ادخرته, أو متجر اتجرته, أو من أن تكون جمعت ذلك كله".

٢- تنوير: ومما انتظمت فيه العبارة جميع أركان المعنى واستوفت غايات المقصد قو الشاعر: (الطويل -ق- المتدارك)

أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه, عاذوا بالسيوف القواضب

فاستوفى ركني المعنى بقوله: يقبل الحق منهم ويعطوه, فتم المعنى وكمل. ومما ورد المعنى فيه مستوفى من جميع أركانه متمما من جميع جهاته قول ابن الرومي: (البسيط -ق- المتراكب)

عفى كلوم زماني ثم قلمه ... عني فأحفاه, ثم اقتص ما اجترحا

فلم يغادر ركنا من أركان المعنى إلا ذكره, فتم المعنى وجاء في نهاية البلاغة.

٣- إضاءة: ومن المعاني التي وقعت قسمتها ناقصة قول جرير: (البسيط -ق- المترادف)

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها

فهذه قسمة ناقصة لأنه أخل بالقسم الثالث. وقيل: إن بعض بني حنيفة سئل: من أي الأثلاث هو من بيت جرير؟ ! فقال: من الثلث الملغى.

ومما نقصت قسمته من المعاني بتداخل قسم على قسم قول أبي تمام: (الكامل -ق- المترادف)

قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا

فتداخلت القسمة لأن القبول هي الصبا على ما ذكره جماهير أهل اللغة. ومما تداخلت قسمته أيضاً من المعاني قول الآخر: (المتقارب -ق- المتدارك)

أبادر إهلاك مستهللك ... لما لي أو عبث العابث

فأما قول هذيل الأشجعي: (الطويل -ق- المتدارك)

فما برحت ترمي إليه بطرفها ... وتومض أحيانا إذا خصمها غفل

فيحتمل أن يكون من القسمة المتداخلة لن الإيماء بالطرف والإيماض به سواء. ويحتمل ألا يكون في الكلام تداخل بأن يريد بقوله تومض تبتسم, وهذا الوجه أولى بأن يحمل البيت عليه ليسلم الكلام بذلك من الخلل.

[ز- معلم دال على طرق بوقوع المعاني المتقاربة متمكنة.]

فمما يمكن المعاني أن توضع مواضعها اللائقة بها المهيأة, وألا توضع موضعا غيرها من المعاني أولى به, وإن كان للمعنى الموضوع أيضاً موقع من ذلك الموضع لأنه مقصر عن موقع غيره من المعاني فيه.

ومن طريف ما ورد في ذلك قول الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)

وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم

كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم

وقول ابن هرمة: (المتقارب -ق- المترادف)

وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقد حي بكفي زنادا شحاحا

كتاركة بيضها بالعرا ... وملبسة بيض أخرى جناحا

فإن معنى بيت الفرزدق الثاني مناسب لمعنى بيت ابن هرمة الأول, ومعنى بيت ابن هرمة الثاني مناسب لمعنى بيت الفرزدق الأول, حتى لو أن الفرزدق قال:

وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم

كتاركة بيضها بالعرا ... وملبسة بيض أخرى جناحا

لكان قد وضع الكلام موضعه الذي يليق به, وكان المعنى صحيحا متمكنا, ولو أن ابن هرمة قال:

وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنادا شحاحا

كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم

لكان كلامه صحيحا وتشبيهه واقعا موقعه اللائق به.

١- إضاءة: ومن هذا الباب ما روي أن أبا الطيب أنشد سيف الدولة قصيدته التي أولها (الطويل -ق- المتدارك) على قدر أهل العزم تأتي العزائم فلما انتهى على قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم

قال له سيف الدولة: "قد نقدنا عليك يا أبا الطيب ما نقدنا على امرئ القيس في قوله: (الطويل -ق- المترادف)

كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

فقال له المتنبي: "أيها الأمير, عن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك. وإذا صح النقد على امرئ القيس صح علي, وإنما أراد امرؤ القيس أن يقرن ركوب اللذة بركوب اللذة في بيت, وأن يجمع بين الشجاعة والكرم في بيت". فاستحسن سيف الدولة ما قاله, ووصله.

<<  <   >  >>