قال: كان أبو الشبل يعابث خنساء قينة هشام الضرير النحوي، وكانت تقول الشعر؛ فعبث بها يوماً وأفرط، فغضبت وقالت: ليت شعري، بأي شيء تدل؟ أنا والله أشعر منك! ولئن شئت لأهجونك حتى أفضحك! فأقبل عليها، وقال:
خنساء قد أفرطت علينا ... فليس منها لنا مجير
تاهت بأشعارها علينا ... كأنما ناكها جرير
فخجلت حتى بان ذلك عليها وانقطعت عن جوابه.
ولأبي الشبل في جارية سوداء كان يهواها، فعوتب عليها، وكان مولعاً بالسودان:
غدت بطول الملام عاذلةٌ ... تعذلني في السّواد والدّعج
ويحك، كيف السلوّ عن غرر ... مقيّرات الوجوه كالسّبج
يحملن بين الأفخاذ أسنمة ... تطير أوبارها من الوهج
لا عذّب الله مؤمناً بهم ... غيري، ولا حان منهم فرجي
فإنني بالسواد مبتهجٌ ... ولست بالبيض جد مبتهج
وله في جارية كان يحبها اسمها تبر:
لم تنصفي يا سمّية الذهب ... تتلف نفسي وأنت في لعب
يا بنت عم المسك الذكي ومن ... لولاك يُجتب ولم يطب
ناسبك المسك في السواد وفي الطي ... ب، فأكرم بذاك من نسب
[دير سابر]
وهذا الدير ببزوغى، وهي بين المزرفة والصالحية، في الجانب الغربي من دجلة. وهي عامرة، نزهة، كثيرة البساتين والفواكه والكروم والحانات والخمارين، معمورة بأهل التطرب والشرب، وهي موطن من مواطن الخلعاء.
والدير حسن، عامر، لا يخلو من متنزه فيه ومتطرب إليه.
وللحسين بن الضحاك، فيه:
وعواتق باشرت بين حدائق ... ففضضتهنّ وقد حسن صحاحا
أتبعت وخزة تلك وخزة هذه ... حتى شربت دماءهنّ جراحا
أبرزتهن من الخدور حواسراً ... وتركت صون حريمهنّ مباحا
في دير سابر والصباح يلوح لي ... فجمعت بدراً والصباح وراحا
فاذهب بظنّك كيف شئت، فكله ... مما اقترفت تغطرساً وجماحا
وكان الحسين بن الضحاك، من الأدباء الشعراء وأهل الخلاعة والمجون، وبالخليع يعرف. ونادم جماعة من خلفاء بني العباس، منهم: الأمين، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. فأما المأمون، فإنه لم يدخل إليه ولم يختلط به، وذاك أنه رثى الأمين، فقال فيه:
هلا بقيت لسدّ فاقتنا ... فينا وكان لغيرك التلف
قد كان فيك لمن مضى خلف ... فاليوم أعوز بعدك الخلف
فلما ورد المأمون من خراسان إلى بغداد، أمر بأن تثبت له أسماء من يصلح لمنادمته من أهل الأدب، فأثبت له قوم ذكر فيهم الحسين بن الضحاك وكان من جلساء محمد المخلوع، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم حسين فقال: أليس القائل في محمد: وكان لغيرك التلف؟ والله، لا حاجة لي فيه ولا رأى وجهي إلا على قارعة الطريق! فلم يحظ طول أيام المأمون بشيء! وكان وقت خدمته المتوكل، ضعف كبراً، فكتب إليه يستعفيه من الخدمة، فقال:
أسلفت أسلافك فيما مضى ... من خدمتي إحدى وستينا
كنت ابن عشرين وخمس فقد ... وفّيت بضعاً وثمانينا
إني لمعروف بضعف القوى ... وإن تجلدت أحايينا
وإن تحملت على كبرتي ... خدمة أبناء الثلاثينا
هدت قواي ووهت أعظمي ... وصرت في العلّة عزّونا
وخفت أن يعجل بي معجلٌ ... إلى التي تعيي المداوينا
عزون هذا الذي ذكره، نديم كان للمعتصم، ثم نادم المتوكل.
وذكر عزون هذا، قال: كمنا مع المعتصم في بعض متنزهاته. فاحتجنا أن نخوض نهراً، وكان معنا حسين بن الضحاك، فكاد أن يغرق. فقبض المعتصم على عضه، وحمله من السرج حتى عبر به النهر إشفاقاً عليه.
وكان الحسين مستهتراً بالخدم جداً، ولم يقصر عن ذاك حتى مات.
قال المتوكل: أنشدني حسين قوله:
فلو شئت تيسرت ... كما سميت يا يسر
ولا والله لا تبر ... ح أو ينصرم الأمر
فأمّا المنع والذم ... وإما البذل والشكر
فدعني من مواعيد ... ك إذ حيّنك الدهر
فقل: أيهما كان ... فقال البذل والشكر