للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

درّيّة الحصباء كا ... فورية فيها المشارف

ثم انبرت سحّاً كبا ... كيةٍ بأربعةٍ ذوارف

ولأبي نواس، يذكر أيامه بالسدير:

عدن لي بالدير أيام قصفٍ ... وسرورٍ مع الندامى وعزف

وعيون الظباء ترنو إلينا ... منعماتٍ بكلّ بر ولطف

ورخيم الخطا يكاد من الر ... قة يدمي أدميه كلّ طرف

حلّ منه الصليب في موضع الجي ... د فقد خصّه على كل إلف

قد أدرنا رحى النعيم ثلاثاً ... ووصلنا النعيم كفاً بكف

قال: ولما نزل الرشيد الحيرة، وقت منصرفه من الحج، ركب جعفر بن يحيى إلى السدير، فطافه ونظر إلى بنائه. ثم وقعت عينه على كتاب في أعلاه فأمر من صعد إلى الموضع فقرأه. فقال في نفسه: قد جعلته فألاً لما أخافه من الرشيد. فقرىء، فإذا هو:

إن بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب

أضحوا ولا يرجوهم راغب ... يوماً ولا يرهبهم راهب

وأصبحوا أكلا لدود الثّرى ... وانقطع المطلوب والطالب

فحزن جعفر لذلك وصار ينشد الأبيات ويقول: ذهب والله أمرنا! ومن هذه الأبنية: المسقطات. وهو قصر فيه آزاج مستطيلة مسقطة شرقي الحيرة على طريق الحاج. ثم القصر. ثم كوة البقال. ثم قصر العدسيين. ثم الأقصى الأبيض. ثم قصر بني بقيلة. وكان هذا القصر لعبد المسيح بن بقيلة الغساني. وإنما سمّي بقيلة، لأنه خرج يوماً على قومه في حلتين خضراوين قد اتّزر بإحداهما واشتمل بالأخرى، فقال قومه: ما هو إلا بقيلة. فسمي بذلك.

وعبد المسيح هذا، هو ابن أخت سطيح الكاهن. وكان كسرى أنفذه إلى سطيح بسبب الرؤيا التي رآها. فجاءه وهو يجود بنفسه، فقال: أصم أم يسمع غطريف اليمن، في أبيات. ففتح سطيح عينه وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، من قبل ملك بني ساسان، لارتجاس الايوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. والخبر مشهور تركناه لشهرته.

فلما نزل خالد بن الوليد الحيرة، خرج إليه عبد المسيح، فقال له خالد: من أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي! قال: ما عن هذا سألتك! قال: ولا أجبت إلا عما سألت عنه! قال: ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا! قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها نتحرز بها من الجاهل إلى أن يجيء العاقل فيردعه! قال: أتعقل؟ قال: نعم، وأقيد! قال: فما سنك؟ قال: عظم! قال: كم أتى عليك؟ قال: لوى أتى علي شيء لقتلني! قال: كم مضى من عمرك؟ قال: أربعمائة سنة! قال: فما رأيت من العجائب؟ قال: رأيت السفن وهي ترفيء في هذا الموضع، ورأيت المرأة وهي تخرج من الحيرة إلى الشام بمغزلها في يدها ومكتلها على رأسها لا يروعها أحد، وهي الآن خراب يباب، وذلك دأب الله في خلقه.

وكان في يده شيء يقلبه. قال خالد: ما هذا الذي في يدك؟ قال: سم ساعة! قال: وما تصنع به؟: قال: إن أعطيتني ما أحب وإلا قتلت نفسي به. ولم أكن أول من أدخل الذل على قومه وساق إليهم ما يكرهون. قال خالد هلمه إلي. فناوله إياه، فطرحه في فيه، وقال: بسم الله، وازدرده. فأخذته غشية، ثم أفاق، كأنما نشط من عقال. فرجع عبد المسيح إلى قومه فقال: جئتكم من عند رجل شرب سم ساعة وما ضره. وحمل إليه مالاً صالحه عليه، وانصرف عنهم.

ومن بعده: دار عون، ثم قبة عصر كذا وهي ما يلي النجف. فهذه قصور الحيرة الباقية الآن.

[قبة الشتيق]

وهي من الأبنية القديمة بالحيرة، على طريق الحاج. وبإزائها قباب يقال لها الشكورة، جميعها للنصارى. فيخرجون يوم عيدهم من الشكورة إلى القبة، في أحسن زي، عليهم الصلبان، بأيديهم المجامر، والشمامسة والقسان معهم يقدسون على نغم واحد، متفق في الألحان، ويتبعهم خلق كثير من متطربي المسلمين وأهل البطالة، إلى أن يبلغوا قبة الشتيق. فيتقربون ويتعمدون، ثم يعودون بمثل تلك الحال. فهو منظر مليح.

ولبعض الشعراء فيه:

والعذارى مشدّدي الزّناني ... ر عليهنّ كل حلي وثيق

يتمشّين من قباب الشعاني ... ن إلى صحن قبة الشتّيق

يا خليلي فلا تعنّفني يوم ... ترى اللهو فيه بالتحقيق

ولبكر بن خارجة:

<<  <   >  >>