وهذا الدير إلى جانب تكريب، على دجلة. وهو كبير عامر كثير القلايات والرهبان، مطروق مقصود، لا يخلو من المتطربين والمتنزهين ولا من مسافر ينزله. ولكل من طرقه من الناس ضيافة قائمة على قدر المضاف لا يخلون بها. وله مزارع وغلات كثيرة وبساتين وكروم. وهو للنسطور. وعلى بابه صومعة عبدون الراهب، رجل من الملكية، بنى الصومعة ونزلها فصارت تعرف به. وهو الآن المستولي على الدير والقيم به وبمن فيه. وقد بنى إلى جانبه بناء ينزله المجتازون، فيقيم لهم الضيافة ويحسن لهم القرى. وقد قيل في هذا الدير أشعار ووصف طيبه ونزهته. فمن ذلك قول عمرو بن عبد الملك الوراق:
أرى قلبي قد حنّا ... إلى دير مريُحنا
إلى غيطانه الفيح ... إلى بركته الغنا
إلى ظبي من الأنس ... يصيد الأنس والجنا
إلى غصنٍ من البان ... به قلبي قد جنّا
إلى أحسن خلق الله ... إن قدّس أو غنّا
فلما انبلج الصّبح ... بزلنا بيننا دنّا
فلما دارت الكأس ... أدرنا بيننا لحنا
ولما هجع السمّا ... ر نمنا وتعانقنا
وكان عمرو هذا من الخلعاء المجان، المنهمكين في البطالة والخسارة والاستهتار بالمرد والتطرح في الديارات: وله شعر كثير في المجون ووصف الخمر. وقد ذكرنا منه ما يليق بالكتاب. فمن شعره قوله:
وحظيّة فيها العطب ... غاليت فيها بالعطب
أتلفت فيها ما كسب ... ت وما جمعت من النشب
ما زلت حتى نلتها ... في بيت مضطرب الخشب
ومدامةٍ كرخيةٍ ... حمراء من ماء العنب
عاقرتها في فتيةٍ ... ليسوا على دين العرب
في معشر مهروا المجا ... نة في اللذاذة والطرب
جعلوا المجانة سترةً ... للعاذلين على الرتب
تمضي الصلاة عليهم ... والسكر منهم في العصب
فإذا تنبه من تنبّ ... هـ كان منها في الطلب
وإذا مضت صلواتهم ... صلوا جمادى في رجب
ومن شعره في المجون أيضاً:
أيها السائل عني ... لست من أهل الصلاح
أنا إنسانٌ مريبٌ ... أشتهي نيك الملاح
قد قسمت الدهر يو ... مين. لفسق ولراح
لا أُبالي من لحاني ... لا أطيع الدهر لاح
ومن مجونه أيضاً:
إذا أنت لم تشرب عقاراً ولم تلط ... فأنت لعمري والحمار سواء
ولم تمل بيتاً من قحابٍ ولم يبت ... فراشك أرضاً ما عليه غطاء
ولم تك بالشطرنج عبداً مقامراً ... وفي النرد عند الخصل منك وفاء
ولم تك في لعب النوى متماحكاً ... فتسلب مالاً أو يكون نواء
ولم تتخذ كلباً وقوساً وبندقاً ... وبرج حمام لم يصبك رخاء
ولم تدر ما عيش ولم تلق لذة ... فأنت حمارٌ ليس فيك مراء
فإن أنت لم تفطن لعيش جهلته ... فدونكه ما دام فيك بقاء
وإياك أن تنفك من سكرٍ طافح ... مساؤك صبحاً والصباح مساء
ونك من لقيت الدّهر منهم ولا يكن ... عليك إذا أعطوك منك إباء
[دير صباعي]
وهذا الدير شرقي تكريت، مقابل لها، مشرف على دجلة. وهو نزه عامر، له ظاهر عجيب فسيح ومزارع حوله على نهر يصب من دجلة إلى الاسحاقي، وهو خليج كبير. فيقصد هذا الدير من قرب منه في أعياده وأيام الربيع وهو إذ ذاك منظر حسن، فيه خلق كثير من رهبانه وقسانه.
ولبعض الشعراء، فيه:
حنّ الفؤاد إلى دير بتكريت ... بين صبّاعي وقس الدير عفريت
دير الأعلى