للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو عبد الله بن حمدون: كنا عند المتوكل في يوم نوروز، والهدايا تعرض عليه، وفيها تماثيل من عنبر. وكان شفيع الخادم واقفاً، وعليه أقبية موردة ورداء مورد، وهو فيها من أحسن الناس وجهً. فجعل المتوكل يدفع إلى شفيع قطعةً قطعة من ذلك العنبر، ويقول: ادفعها إلى حسين، واغمز يده فيفعل ذلك. وكان آخر ما دفع إليه وردة حمراء حياه بها، فأنشأ يقول:

وكالوردة البيضاء حيا بأحمر ... من الورد يسعى في غلائل كالورد

له عبثات عند كل تحية ... بكفيه تستدعي الخليّ إلى الوجد

تمنيت أن أُسقى بكفيه شربةً ... تذكرني ما قد نسيت من العهد

سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلةً ... من الدهر إلا من حبيب على وعد

فأمره المتوكل أن يسقيه، وقال: قد أعطيناك أمنيتك.

وكان حسين ينادم صالح بن الرشيد، فشرب معه مرة في متنزه بباري، وهي من أعمال كلواذا. وكان له هناك بستان حسن جليل وسوره باق إلى الآن وآثاره. وقال يصف البستان وصبوحهم فيه، وهي من مليح شعره:

أما ناجاك بالنظر الفصيح ... وإنّ إليك من قلب قريح؟

فليتك حين تهجره ضراراً ... مننت عليه بالقتل المريح

بحسنك كان أول حسن ظني ... أما ينهاك حسنك عن قبيح؟

وما ينفكّ متّهماً لنصحي ... بنفسي نفس متهم نصيح

أحبّ الفيء من نخلات باري ... وجوسقها المشيّد بالصفيح

ويعجبني تناوح أيكتيها ... إليّ بريح حوذان وشيح

ولن أنسى مصارع للسكارى ... ونادبة الحمام على الطلوح

وكأس في يمين عقيد ملكٍ ... تزين صفاته غرر المديح

صريح مدامة هويت صريحاً ... وهل تزري الصريحة بالصريح

ألا يا عمرو، هل لك في الصبوح ... هلم إلى صفية كل روح

فقام على تخاذل مقلتيه ... وسلسل بالسنيح وبالبريح

وأتبع سكرةً سلفت بأُخرى ... وخلّى الصحو للّحز الشحيح

وذكر عمرو بن بانة، قال: كنا عند صالح بن الرشيد في بستانه هذا، ومعنا الحسين بن الضحاك، وحولنا من النرجس أمر عظيم، وقد طلع القمر على الشجر والنور، ووقتنا من أحسن وقت رئي، وخادم لصالح كان يحبه يسقيه. فقال للحسين: قل في مجلسنا هذا شيئاً يتغنى به ابن بانة وأشار إلى الخادم، فقال:

وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا

وإذا ما تنفس النرجس الغ ... ض توهمته نسيم نشاكا

خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا

لأدومنّ ما حييت على الود ... لهذا وذاك إذ حكياكا

قال عمرو: فغنيت فيه. ومر لنا أطيب وقت وأحسنه! قال الحسين بن الضحاك: كنت جالساً في داري يوم وشك، وقد أفطر المأمون، وأمر الناس بالافطار. فجاءتني رقعة الحسن بن رجاء، يقول فيها:

هززتك للصبوح وقد نهاني ... أمير المؤمنين عن الصيام

وعندي من بنات الكرخ عشر ... تطيب بها مصافحة المدام

ومن أمثالهن إذا انتشينا ... نرانا نجتني ثمر الحرام

فكنت أنت الجواب، فليس شيء ... أحب إلي من حذف الكلام

فوردت علي رقعته، وقد أرسل إلي محمد بن الحرث بن بسخنر غلاماً له، نظيف الوجه كان يتحظاه، ومعه ثلاثة غلمان أقران حسان الوجوه، ورقعة منشورة قد ختم أسفلها مثل المناشير، فيها:

سر على اسم الله يا أح ... سن من غصن لجين

في ثلاث من بني الرو ... م إلى دار حسين

أشخص الكهل إلى مو ... لاك يا قرّة عيني

أره العنف إن استع ... صى وطالبه بدين

ودع اللفظ وخاطب ... هـ بغمز الحاجبين

واحذر الرجعة من وج ... هك في خفّي حنين

فمضيت مع غلام بن الحرث، وتركت المضي إلى الحسن.

دير قوطا

<<  <   >  >>