للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وذكر حمدان بن يحيى، قال: آخر ما فارقت عليه محمد بن حازم أنه قال لي: لم يبق علي شيء من اللذات إلا بيع السنانير! قال: فقلت له: أسخن الله عينك! أيش لك في بيع السنانير من اللذة؟ قال: تعجبني العجوز الرعناء تخاصمني، وتقول: هذا سنوري سرق مني، فأقول لها: كذبت، ثم تشتمني وأشتمها وتخاصمني وأخاصمها! قال: وأنشدني:

صل خمرةً بخمار ... وصل خماراً بخمر

وخذ بحظّك منها ... زاداً إلى حيث تدري

فقلت: إلى أين، ويحك؟ فقال: إلى الهاوية، يا رقيع! ومن مليح شعره، قوله:

أيا ابن سعيد جزت بي غاية البرّ ... وحمّلتني ما لا أطيق من الشكر

وإن امرءاً أعطاك مجهود شكره ... وفتّ ولم يبلغ مداك لفي عذر

تقلّب حال للفتى بعد حالةٍ ... وتبقى أيادٍ حرةٌ لفتىً حرّ

ومن جيد شعره، قوله:

وإني لذو ودّ لمن دام وده ... وجافٍ لمن رام الجفاء ملول

وإن امرءاً يأوي إلى دار ذلةٍ ... تعبّده فيها الرجاء ذليل

وفي اليأس من ذلّ المطامع راحةٌ ... وفي الناس ممن لا تحبّ بديل

وقال في القناعة:

الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسنٌ جميل

أصبحت مستوراً معافى ... بين أنعمه أجول

خلواً من الأحزان خفّ ... الظهر يقنعني القليل

لم يشقني طمعٌ ولا ... حرصٌ ولا أملٌ طويل

سيّان عندي ذو الغنى ال ... متلاف والرجل البخيل

ونفيت باليأس المنى ... عني فطاب لي المقيل

والناس كلّهم لمن ... خفّت مؤونته خليل

قال محمد بن حازم: بعث إلي بعض الطاهرية، وكنت قد بالغت في هجوه وأفرطت، بألف درهم وتخت ثياب، وقال: أما ما قد مضى، فلا سبيل إلى رده، ولكني أحب ألا تزيد عليه شيئاً. فرددت الدراهم والثياب، وكتبت إليه:

لا ألبس النعماء من رجلٍ ... ألبسته عاراً على الدهر

ثم أمسكت عن هجائه.

قال: وكان سعيد بن مسعود القطربلي صديقاً لي، فسألته حاجة فردني عنها، فانقطعت عنه، فبعث إلي بألف درهم وترضاني، فرددتها، وكتبت إليه:

متسع الصدر رحيبٌ لما ... يضيق عنه الحوّل القلّب

راجع بالعتبى فاعتبته ... وربّما أعتبك المذنب

أجل وفى الدهر على أنه ... موكّلٌ بالبين مستعتب

سقياً ورعياً لزمان مضى ... عني وسهم الشامت الأخيب

قد جاءني منك مويل فلم ... أعرض له والحرّ لا يكذب

أخذي مالاً منك بعد الذي ... أوليتنيه مركبٌ يصعب

أبيت أن أشرب عند الرضا ... والسخط إلا مشرباً يعذب

أعزّني اليأس وأغنى فما ... أرجو سوى الله ولا أرهب

قارون عندي في الغنى معدمٌ ... وهمّتي ما فوقها مذهب

فأي هاتين تراني بها ... أصبو إلى مالك أو أرغب

ومن شعره في القناعة، قوله:

من أعمل اليأس كان اليأس جاعله ... معظّماً أبداً في أعين الناس

ومن رماهم بعين الطامعين رأى ... ذلاًّ وحسّوه مرّ المنع في كاس

اليأس خيرٌ وما للناس من ثمرٍ ... هات امرءاً ذلّ بعد اليأس للناس

وقال في هذا المعنى:

جعلت مطيّة الآمال يأساً ... فآواني إلى كنفٍ وسيع

فتلك مطية الآمال غفلٌ ... بلا رحلٍ يشدّ ولا نسوع

لعمرك، للقليل أصون وجهي ... به في الأوحدين وفي الجميع

أحبّ إلي من طلبي كثيراً ... تمدّ إليه أعناق الخضوع

فعش بالقوت يوماً بعد يوم ... كمصّ الطفل فيقات الضروع

ولا ترغب إلى أحدٍ بحرصٍ ... رفيع في الأنام ولا وضيع

وقد رحل الشباب وحلّ شيبٌ ... فهل لك في شبابك من رجوع

<<  <   >  >>