للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأيضاً فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها، وبينوا ذلك، وهذا أيضاً مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه (١).

وعلى هذا المعنى تصح قراءة من جعل الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧]، عاطفة، فالراسخون في العلم يعلمون معنى ما قد يشتبه على غيرهم.

وإما إن أريد بالتأويل الحقيقة والمآل، فالتأويل بهذا المعنى مما لا يعلمه إلا الله تعالى، وذلك مثل أشراط الساعة، وحقائق اليوم الآخر من الجنة والنار، وما فيهما، وكذلك الصراط والميزان والحشر، وغير ذلك.

فهذا لا يعلم وقتها وقدرها وصفتها إلا الله تعالى، كما قال سبحانه في نعيم الجنة: {نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا} [السجدة: ١٧] (٢)، "فالله تعالى قد أخبرنا أن في الجنة خمراً ولبناً وماء وحريراً وذهباً وفضة، وغير ذلك، ونحن نعلم قطعاً أن حقائق ما في الجنة من هذه الأشياء ليس مماثلاً لما نعرفه في الدنيا، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه، كما في قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: ٢٥] (٣)، على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائقُ الحقائقَ من بعض الوجوه، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه، وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به" (٤).

وكذلك كيفية صفات الله تعالى وذاته، فهذا كله من التأويل الذي لا يعمله إلا الله تعالى.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما التأويل الذي اختص الله به فحقيقة ذاته وصفاته، كما قال مالك: والكيف مجهول، فإذا قالوا: ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره، قيل: هذا هو التأويل الذي لا يعمله إلا الله" (٥).

والتأويل بهذا المعنى -أي: كونه الحقيقة والمآل- هو المراد عند من رأى الوقف في آية آل عمران على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، وجعل الواو للاستئناف وليست للعطف.

وعلى هذا يمكن أن يقال بأن كلاً من القراءتين حق، ولكل منهما وجه ومعنى.


(١) انظر: تفسير سورة الإخلاص ١٧/ ٣٩٠، ٣٩١، ٣٩٦، ٣٩٧. ضمن مجموع الفتاوى.
(٢) سورة السجدة: ١٧.
(٣) سورة البقرة الآية: ٢٥.
(٤) انظر: الإكليل في المتشابه والتأويل ١٣/ ٢٧٨، ٢٧٩، ضمن مجموع الفتاوى.
(٥) المرجع السابق ١٣/ ٣١٢ ضمن مجموع الفتاوى.

<<  <   >  >>