للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

- ع -

وليس من شك في أن المختارات الأدبية التي ساقها أبو حاتم للمعمرين في كتابه تمثل في جملتها لونا ذا أهمية كبيرة في الأدب العربي، وأنها تصور ذوقا فنيا خاصا لشعراء وناثرين حفل بهم العصر الجاهلى والعصر الإسلامي، وكانت لهم أدوار في التاريخ العربي محمودة في سيرتهم وبين قومهم، وأن هؤلاء المعمرين كانوا بأعمارهم أفضل للأشياء اختبارا، وأن شعرهم الواقعي يزوّدنا بثروة من الأخيلة الشعرية، لها قيمتها في الدلالة وحسن الأداء. وإن كانت أساليب هؤلاء المعمرين لا تضيف جديدا إلى عناصر الأسلوب العربي المعروف.

ويكاد هؤلاء الشعراء المعمرون يتفقون في تشبيه الشيب بالضيف المكروه، ثم تختلف أخيلتهم الشعرية في هذا الضيف، فيقول بعضهم:

ضَيْفٌ بَغِيضٌ لَا أَرَى لِيَ عُصْرَةً … مِنْهُ هَرَبْتُ، فَلَمْ أَجِدْ لِي مَهْرَبَا

ويقول آخر:

أَضْحَى لِيَ الشَّيْبُ ضَيْفًا غَيْرَ مُرْتَحِلٍ … وَلَيْتَهُ كانَ يُقْرَى الْمَالَ، فَارْتَحَلَا

لِكُلِّ ضَيْفٍ قِرَاهُ، أَنْتَ حَاشِمُهُ … وَمَا قِرَا الشَّيْبِ إِلَّا الْحِلْمُ إِذْ نَزَلَا

وكل هؤلاء المعمرين يتحسرون على أيامهم الخوالي، ويذكرونها بالأسَى والغُصَّة، ويستعيدون سيرتهم الأولى لأبنائهم وأحفادهم وذويهم وزوجاتهم، ومنهم من يذكر قوته في شبابه التي تخافها الأسود، وضعفه في مشيبه الذي يخاف به من الثعلب:

وَلَقَدْ أَرَانِي وَالْأُسُودُ تَخَافُنِيَ … وَأَخَافَنِي مِنْ بَعْدِ ذَاكَ الثَّعْلَبُ

وَإِذَا رَأَيْتَ عَجِيبَةً فَاصْبِرْ لَهَا … وَالدَّهْرُ قد يَأْتِ بِمَا هُوَ أَعْجَبُ

ويتفاوت هؤلاء المعمرون قوة وضعفا في إبراز أحوالهم التي صاروا إليها، من خطو قصير ومشى ضعيف، وشعرهم في هذا يصور أحوالهم على أساليب مختلفة من النسج اللفظي والخيال الشعرى.

فيقول بعضهم:

وَمَشِيتُ بِالْيَدِ قَبْلَ رِجْلٍ خَطْوُهَا … رَسْفُ الْمُقَيَّدِ تَحْتَ صُلْبٍ أَحْدَب

<<  <  ج: ص:  >  >>