للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما أكلي وشربي إن جعت كلبت، وإن شبعت بهرت؛ وأما نومي فإن حضرت مجلسا حالفني، وإن خلوت أَطلبه فارقني؛ فإن بذلت لي عجزت وإن مُنعت غضبت.

قال معاوية: فأخبرني عن أعجب سيئ رأيته.

قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة، يقال له، حُريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انتبذت جانبا عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت شعرا كنت رويته قبل ذلك:

يا قلب إِنَّك في أسماء مغرور … اذكر، وهل ينفعك اليوم تذكيرا؟

قد بحت بالحب ما تخفيه … حتَّى جرت بك إطلاقا محاضير

تبغي أمورا فما تدرس أَعاجلها … خير لنفسك أَم ما فيه تأخيرُ

فاستقدِرِ الله خيرا، وارضينَّ به … فينما العسر إِذا دارت مياسير

وبينما المرء في الأحياء مُغتبطا … إِذ صار في الرَّمس تعفوه الأعاصير

حتَّى كأَن لم يكن إلاَّ تذكرُّه … والدَّهرُ أيَّة ما حالٍ دهارير

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه … وذو قرابته في الحِّ مسرور

وذاك آخر عهد من أَخيك إِذا … ما المرء ضمنَّه اللحد الخناسير

الخنسير والجمع الخناسير، ويقال الخناسرة، وهم الذي شيعوا الجنازة.

فقال رجل إلى جانبي يسمه ما أقول: يا عبد الله، من قال هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به، ما أدري أني قد رويتها منذ زمان.

قال: قائله الذي دفناه آنفا، وإن هذا ذو قرابته أَسرُّ الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه. فعجبت لما ذكر في شعره والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره.

<<  <  ج: ص:  >  >>