أقول: حديث لا صام من صام الابد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص وكذلك حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال: قيل: يا رسول الله كيف بمن صام الدهر؟ قال:"لا صام ولا أفطر" أو "لم يصم ولم يفطر" معناهما أنه لما خالف الهدى النبوي الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه ولا أفطر فطرا ينتفع به ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبدا لله بن عمرو وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال: "صم من كل شهر ثلاثة أيام"، فقال: إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما فإنه افضل الصيام وهو صوم أخي دأود". هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين قال: أحدهم أنه يصوم ولا يفطر وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام وقال الثالث إنه لا ياتي النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد فمن رغب عن سنتي فليس مني وقد أخرج أحمد وابو دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي اخبره أنه يصوم الدهر:"من أمرك أن تعذب نفسك" ولا ينافي هذا ما ورد في صوم ايام البيض أن صيامها كصيام الدهر وكذلك ما ورد فيمن صام رمضان واتبعه ستا من شوال أنه كمن صام الدهر لأن التشبيه لا يقتضي جواز المشبه به فضلا عن استحبابه وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام كل السنة فلا يدل التشبيه على افضلية المشبه به من كل وجه ومع هذا فقد ورد الوعيد على صوم الدهر فأخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وقبض كفه ولفظ ابن حبان "ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين وأخرجه أيضا البزار والطبراني قال في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح فهذا وعيد ظاهر وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسف وتكلف والعجب ذهاب الجمهور إلي استحبابه كما حكاه عنهم ابن حجر في الفتح وهو مخالف للهدى النبوي وهو أيضا أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما "كل أمر ليس عليه امرنا فهو رد" وهو أيضا من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رغب عن سنته فليس منه وهو أيضا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة قال الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: ١٨٥] ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه:"يسروا ولا تعسروا" [البخاري "٤٣٤٤، ٤٣٤٥، ٤٣٤٢"، مسلم