قد كان حكمه هذا الواقع على جهة الخطأ سببا لذهاب مال المحكوم عليه فهو مظلوم ورفع ظلامته واجب وقد تعذر الرجوع بالعين والرجوع بقيمتها على المحكوم له ولم يتعلق بالحاكم الضمان ولا يجوز تضمينه مع الخطأ فلم يبق إلا جبر ما لحقه من الخسر من بيت المال فيكون له حكم الغارم وقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيام النبوة بعد أن فتح الله على المسلمين بأن من ترك دينا أو ضياعا فهو عليه وإليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة فمال هذا المحكوم عليه بالخطأ هو دين على من استفرقه وقد تعذر الرجوع عليه فكان دينا على بيت مال المسلمين.
قوله:"وأجرته من مال المصالح".
أقول: قد ثبت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجعل لمن عمل عملا يرجع إلى مصالح المسلمين رزقا ومن ذلك أرزاق المصدقين والأمراء الذين يؤمرهم على البلاد وهكذا ثبت في أيام الخلفاء الراشدين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، أنهم كانوا يجعلون للولاة والقضاة ومن يعمل في الصدقات رزقا من بيت مال المسلمين وكان يفرضون للأئمة رزقا يقوم بما يحتاجون إليه مع حاجتهم إلى ذلك وعدم وجود ما يقوم بمؤنتهم من خالص أموالهم ولا شك أن انتصاب القاضي المفتي للفتيا قيام بمصلحة عامة فله نصيب في بيت مال المسلمين من هذه الحيثية وليس ذلك بأجرة على واجب بل ثبوت حق له في بيت مال المسلمين وقد كان الصحابة يأخذون عطاءهم من بيت المال وإن لم يلوا عملا كما هو معلوم فكيف إذا قاموا مع ذلك بما لم يقم به سائر المسلمين وقد جعل الله سبحانه العاملين على الصدقة أحد الأصناف الثمانية المستحقين لها ولا سبب لذلك إلا ما فعلوه من العمل وهكذا منصوب الخمسة بل وكل ذي ولاية دينية راجعة إلى القيام بمصالح المسلمين.
وأما قوله:"أو ممن بلد ولايته" فلا بد من حمله على أنهم يدفعون إليه من أموال الله التي بأيديهم لا أنهم يدفعون إليه من خالص أموالهم فإن ذلك لا مساغ له في الشرع.
وأما كونه لا يأخذ من الصدقة إلا لفقره فقد قدمنا في الزكاة الكلام على الأصناف التي يشترط فيها الفقر والأصناف التي لا يشترط فيها الفقر فارجع إليه.
وأما سائر الأموال التي هي معدودة في بيت مال المسلمين فلا يشترط بها فقر القاضي ولا غيره وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر:"ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك"، [البخاري "٣/٣٣٧"، مسلم "١٠٤٥"] ، بعد أن قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطيه من هو أحوج إليه منه وقد كان الصحابة يأخذون من العطاء الألوف المؤلفة كما هو معلوم بل كان الحسنان وعبد الله بن جعفر وأمثالهم يأخذون المائة الألف وما هو أكثر منها.