فهذه الأحاديث قد أفادت أن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا كما هو مصرح به في كل واحد منهما مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرها ولو كان القاتل متعمدا فإن مجرد كون الآلة على هذه الصفة يكفي في كون القتل خطأ وأنه لا يجب فيه إلا الدية المذكورة.
ومن الخطأ الذي هو شبه العمد ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل السلاح"، وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الدمشقي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه غير واحد وهذه الصورة تدل على قول المصنف أو غير قاصد للمقتول وعلى قوله أو للقتل لما مثله لا يقتل في العادة فإن ثوران الفتنة بين الناس الغالب فيها أنه لا يقصد القتل ولا شخصا معينا ولهذا قال رسول الله:"في غير ضغينة ولا حمل سلاح" وأما إذا كانت الآلة مثلها يقتل في العادة وإن لم يكن من المحدد فإن القصاص فيها واجب كما تقدم في رض رأس اليهودي الذي رض رأس الجارية وكما أخرجه أحمد "١٣/١٣٦"، وأبو داود "٤٥٧٢"، والنسائي "٤٨٢٠"، وابن ماجه "٢٦٤١"، من حديث حمل بن مالك قال" كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل بها وقد ذهب إلى وجوب القصاص في مثل هذا الجمهور وهو الحق وأدلة الكتاب والسنة المثبتة للقصاص تشمله وليس بيد من قال إنه لا قصاص في القتل بغير المحدد مطلقا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما ورد من طريق الكذابين والوضاعين وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ الذي هو شبه العمد بيانا شافيا فلنقتصر عليه ونرد ما عداه إلى ما شرعه الله لعباده من القصاص في العمد العدوان وقد أصاب المصنف باقتصاره في بيان قتل الخطأ على هذه الصور الأربع وحكمه على ما عداها بأنه عمد وهكذا أصاب في قوله وإن ظن الاستحقاق لأن العمل بالظن في سفك الدماء المعصومة لا تبطل حقا وإن كان دون القتل فضلا عن القتل.
قوله: "وما سببه منه فهدر" الخ.
أقول: قد حكم في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين [البخاري "٦٨٩٢"، مسلم "١٦٧٣"، وغيرهما الترمذي "١٤١٦"، النسائي "٨/٢٨، ٢٩"] ، من حديث عمران بن حصين أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك"، وفي الصحيحين [البخاري "٦٨٩٣"، مسلم "١٦٧٤"، وغيرهما أبو داود "٤٥٨٤"، النسائي "٨/٢٩، ٣٠"] ، من حديث يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل إنسانا فعض أحدهما صاحبه فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته وقال: "أيدع يده في فيك لتقضمها كما يقضم الفحل".