للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المحسوسات، والقوى الجسمانية، فتجتمع الفكرة في الموجود، الواجب الوجود وحده دون شركه. فمتى سنح لخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده. ودافعه وراض نفسه على ذلك، وذهب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة ايام لا يتغذى فيها ولا يتحرك.

وفي خلال شدة مجاهدته هذه، وربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميعا الأشياء إلا ذاته، فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق، الواجب الوجود. فكان يسوءه ذلك، ويسلم أنه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة.

وما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق، حتى تأتي له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السماوات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية، والقوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق، وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل، واضمحل، وصار هباء منثورا، ولم يبق إلا الواحد الحق، الموجود الثابت الوجود، وهو يقول بقوله، الذي ليس معنى زائدا على ذاته: "ولمن الملك اليوم، الله الواحد القهار". ففهم كلامه، وسمع نداءه، ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم واستغرق في حالته هذه، وشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

وبعد أن وصل إلى الله بطريق العقل وبطريقة الرياضة الروحية، تأمل في ثمرة الطريقين فوجد أن نتيجتها واحدة، وأنهما لا تختلفان إلا في درجة الوضوح، وأبان عن ذلك، وبذلك يكون قد وصل إلى الإجابة عن السؤال الثالث وأتاحت المصادفة للشيخ -حي بن يقظان- أن يلتقي برجل يدين بدين منزل صحيح وتفاهم معه في كل ما وصل إليه عقله، وما وصل إليه قلبه، فوجد التطابق التام. ووصل ابن طفيل برسالته اللطيفة الحجم إلى كل ما كان يرجو أن يصل فيه إلى جواب صحيح يرضي العقل ويرضي الدين. وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول -عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة.

<<  <   >  >>