للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صَغرْتَ كُلَّ كَبيرةٍ وكبرت عَنْ ... لكأنَّهُ وَعَدْتَ سِنَّ غُلامِ

قال الشيخ رحمه الله: يقول إنه صغر كل كبيرة، لأن الناس إذا نظروا إلى أفعاله استصغروا بفعله غيره، وكبرت عن لكأنه يشبه قوله:

أمِطْ عَنْكَ تَشْبِيهِي بِما وكأنَّهُ ... فما أحَدٌ فَوْقِي ولا أحَدٌ مِثْلي

أراد أنه يكبر عن التشبيه، وأن يقول القائل كأنه الأسد، وكأنه السحاب، ونحو ذلك، فأدخل لام الابتداء على كأن، وذلك قليل جدا، والقياس يمنع منه لأن الكاف أول كلام، وقولهم: " كأن زيدا عمرو " مؤد معنى قولك كزيد، فجاز دخول اللام على الكاف، كما جاز دخولها في قولك: " لفلان أفضل من فلان " ثم ختم البيت بقوله:) سن الغلام (أي أنك شاب مع فعلك هذه الأفعال العظام.

ومن التي أولها:

عُقْبى اليمينِ عَلى عُقْبى الوَغى نَدَمُ ... ماذَا يَزيدُكَ في إقْدامِكَ القَسَمُ

قال ابن جني: هي آخر قصيدة قالها بحضرة سيف الدولة، وقلت لأبي الطيب وقت قراءة هذه القصيدة عليه: أنه ليس في جميع شعرك أعلى كلاما من هذه القصيدة، فاعترف بذلك وقال كانت وداعأ.

وقال الشيخ: المثل القديم) اليمين حنث أو مندمة (وكأن مراد الشاعر إن عقبى يمين الحالف على عقبى الوغى، أي ما تعقبه الحرب ندم، لأنه لا يدري ما يكون فكأنه يشير بترك الحلف.

الرَّاجعُ الخَيْلَ نُحْفاةً مُقَوَّدَةً ... مِن كُلَّ وبارِ أهْلُها إرَمُ

قال الشيخ: الراجع الخيل يعني الممدوح، قد أحفاها السير فهي تقود ليزول عنها ذلك، و) وبار (موضع كان مسكونا ثم خلا من أهله، والعرب تضرب به المثل في البعد، وإرم هو أبو عاد ابن إرم بن سام بن نوح، والمثل يضرب في الفناء قال الراجز: مَنْ يَلْقَني يُودِ أوْدَتْ إرَمْ أي خيل هذا الممدوح ترجع عن البلد الذي غزاه وهو خال مثل وبار، وأهله هالكون مثل إرم.

وقال ابن فورجة: أي أحفاها كثرة السير، فهي تقاد ولا تركب رفقا بها. ولا تكون محفاة ملقية نعالها الحديد؛ لأنها خيل عراب لا تحتاج إلى النعال، ألا تراه يقول:

وكُلَّ جَوَادٍ تَلْطِمُ الأرْضَ كَفُّهُ ... بأغْنَى عَنِ الحَديد منَ النَّعْلِ

وقوله أيضا:

تَمَاشَى بأيدٍ كُلَّما وَافَتِ الصَّفا ... تَفَشْنَ بِهِ صَدْرَ البُزَاةِ حَوَافيا

بل أحفاها سلوكها الجبال في طلب الروم، وهي لم تتعود إلا البر، ولو أراد إلقاءها نعالها الحديد لقيل فهلا أنعلها إذ ألقت النعال، وهو ملك لا يعوزه النعال حيث سار، ويجوز أيضا أن يكون من الإحفاء الذي هو التقصي، كالخبر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى.

جَيْشٌ كأنَّكَ في أرْضِ تُطاوِلُه ... فالأرْضُ لا أمَمٌ والجَيْشُ لا أمَمُ

قال الشيخ: يقول كأنك في أرض تطاوله وهي واسعة، وعدد الجيش كثير فكرهما غير أمم، والأمم الشيء بين الشيئين يقال: دار بني فلان أمم أي بين القريب والبعيد. قال الشاعر:

طَرقَتْهُ أسمَاءُ أمْ حَلَمَا ... أمْ لمْ تكُن من رِحَالِنَا أمَمَا

إذا مَضَى عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ ... وإنْ مَضَى عَلَمٌ مِنْهُ بَدَا عَلَمُ

قال الشيخ: العلم من الأرض مثل الجبل، وعلم الجيش معروف، وكلاهما من العلامة، لأنه مؤد إلى العلم بالشيء، [ولو قال] وإن بدا عالم منه بدا علم، لكن أحسن في حكم الشعراء، ولعل أبا الطيب كذلك قال، لأن تكرير العلم في البيت كثير، وقوله في صفة الجيش بدا عالم يقلل تردد العلم ويدل على كثرة الجيش.

فَمَا تَرَكْنَ بها خُلْدا لَهُ بَصَرٌ ... تَحْتَ الترابِ ولا بَازاً لَهُ قَدَمُ

قال الشيخ أبو العلاء: يقول ما تركن في هذه الناحية خلدا، أي رجلا قد دخل في مغارة كما يدخل الخلد في الأرض، إلا أن هذا الخلد يبصر وهو يشابه الخلد في اختفائه، ويخالفه في نظره، ولا بازا له قدم، يعني رجلا مثل الباز يكون في أعالي الجبال إلا أنه له قدم.

تَلْقى بهمْ زَبَدَ التَّيَّارِ مُقْرَبةٌ ... عَلَى جَحافِلِها مِنْ نَضْحِهِ رَثَمُ

دُهْمٌ فَوَارِسُها رُكّابُ أبْطُنِها ... مَكْدُودَةٌ وَبِقَوْمٍ لا بها الأَلَمُ

<<  <   >  >>