قال الشيخ: يقول: إذا هم الإنسان بأمر ولم يفعله فكأنه لم يهم به، وإذا اجتهد في طلب شيء ولم يدركه، فكأنه ما طلبه، وهذا البيت مخاطبة لغير الممدوح، يقول: كأنك يا إنسان إذا جاودت غيرك فغلبك في الجود لم تجاوده وإذا قابلت من لم تقاومه فكأنك لم تقاومه.
ومن التي أولها:
كُفي أرَاني زَيْكِ لَوْمَكِ ألوَما ... هَمٌّ أقامَ على فُؤادٍ أنْجَما
قال الشيخ أبو العلاء: النصف الأول يحتمل وجين: أحدهما: أن يكون مستغنيا بنفسه، يقول كفى لومك فإني أراني ألوم منك، أي ألومك أكثر من لومك إياي، وويك كلمة لم يصرف منها فعل، وأصحاب اللغة يزعمون أمن معناها التنبيه على الشيء، كأنهم يريدون ألم تروا في الكتاب العزيز:) ويكأنه لا يفلح الكافرون (فذهب الخليل فيما يرون إلى أنه قال: " وي " على معنى التعجب، ثم قال كأنه لا يفلح الكافرون، وهذا مذهب من يقول: " ويك " بلا أن وقد جاءت مع أن الخفيفة في قول الشاعر:
وَيْ كأنْ مَنْ يكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبَ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرَّ
فإذا جعلت " وي " كلمة والكاف للخطاب، وجب أن تفتح إذا خوطب بها المذكر وأن تكسر إذا أريد بها التأنيث.
والوجه الآخر من الوجهين الجائزين في النصف الأول: أن يكون متعلقا بالنصف الثاني، ويكون هم مرفوعا بقوله أراني، كأنه قال أراني لومك ألومك هم أقام على فؤاد أنجم، في أنجم ضمير يعود على الفؤاد، أي ذهب به كما يذهب السحاب المنجم، فيكون قوله) ألوما (أي أحق باللائمة مني حمل على القول الأول فهم مرفوع بابتداء مضمر، أو فعل أو خبر مقدم كأنه قال: هذا هم أو أصابني هم أو بي هم.
لمْ تَجْمَعِ الأضْدادَ في مُتَشابِهِ ... إلاّ لتَجْعَلَنِي لِغُرْمِي مَغْنَما
كصِفاتِ أوْ حَدِنا أبي الفَضْلِ التي ... بَهَرَتْ فأنْطَقَ واصِفيهِ وَأفْحَما
قال الشيخ رحمه الله: يقول: بهرت صفات هذا الممدوح فأنطلق الواصفين فوصفوه حتى فحموا، أي انقطع ملامهم، ويقال بكى الصبي حتى فحم، أي عجز عن البكاء، وقالوا أفحم الشاعر إذا تعذر عليه قول الشعر، ويجب أن يكون أخذ هذا اللفظ من الفحم المعروف، لأنهم يريدون أن الخاطر كان كالنار الموقدة فأنقطع إلى أن صار كالفحم، قال الهذلي.
أصَخْر بنَ عَبد اللهِ كُنْتَ شاعِراً ... فإنك لا تُهْدِي القَوافي لُمفْحَمِ
قال ابن فورجة: الأضداد هي الليل والشمس في قوله) شمس النهار تقل ليلا مظلما (ونحافة الغصن وكثافة النقا، في قوله: غُصنٌ على تَقَوَىْ فلاةٍ نابِتٌ والمتشابه يريد تشابه حسنها وتمثاله، وهذا كقول الأول:
إني غَرِضْتُ إلى تَناصُفِ وجْهِها ... غَرَضَ المُحبّ إلى الحَبيبِ الغائِبِ
تناصف وجهها أي كونه غير متنافر الحسن، ثم شبه اجتماع تلك الأضداد في الحسن المتشابه بصفات هذا الممدوح، إذ أنطقت الواصفين بحسنها وبهائها، ثم أفحمتهم بعجزهم عن إدراك كنهها، فهذان ضدان قد اجتمعا في صفاته المتشابهة، وجعل الفعل في أنطق وأفحم للممدوح لا للصفات.
يا أيها المَلِكُ المُصَفَّى جَوْهَراً ... من ذاتِ ذي المَلكوتِ أسمىَ مَن سما
قال ابن جني: أي من ذات الله، وبالغ عز الله وعلا، وأسمى هاهنا اسم مضاف إلى من، وموضعه نصب لأنه منادى، فكأنه قال: يا أعلى من علا، وأرفع من ارتفع ويجوز أن يكون موضعه رفعا كأنه قال أنت أعلى من علا.
وقال الشيخ: جعل الممدوح خاصا من جوهر من عز عن الجواهر والأعراض، وخلقها بالإرادة، والقائل لها مذموم وإن رضي الممدوح بذلك، فقد أقدم على أمر يستعظم والملكوت فعلوت، والتاء في ذات أصلها هاء، ولكنها استعملت مضافة " وأسمى من سما " في موضع خفض نعت لله سبحانه.
نُورٌ تَظاهَرَ فيكَ لا هُوتِيَّةً ... فَتَكادُ تَعَلمُ عِلْمُ مَا لَنْ يُعْلَما